الحرب الأخيرة: الشرق الأوسط بين صراع الهيمنة ومعادلات الردع الجديدة

يوسف خلف يوسف ـ رئيس جامعة الشعب

أعلنت اليوم الأطراف المتصارعة وقف إطلاق النار بعد 12 يوماً من القصف المتبادل بين الكيان وإيران، في واحدة من أكثر المواجهات حساسية منذ عقود، والتي تكشف ملامح تحولات جوهرية في معادلة القوة الإقليمية والدولية. وفي ضوء هذا التصعيد غير المسبوق، تتضح تسعة محاور رئيسية تُعيد رسم خرائط التوازن والنفوذ في الشرق الأوسط، وتُلقي بظلالها على الواقع العراقي أيضًا.

1. مشروع الكيان في الشرق الأوسط: من الأمن إلى الهيمنة

لم يعد الكيان تنظر إلى الصراع من منظور أمني بحت، بل بات واضحًا انه يسعى إلى تنفيذ مشروع سياسي–عسكري يعيد تشكيل المنطقة. من خلال علاقاتها (اسرائيل) المتنامية مع دول التطبيع، إذ تعمل على تشكيل تكتل إقليمي تكون فيه صاحبة القرار، وتهيمن على الاقتصاد والتكنولوجيا والأمن الإقليمي، وصولًا إلى حلم “إسرائيل الكبرى”. لكن هذه الحسابات تُواجه تحديات بنيوية تتعلق بجغرافيا الوعي العربي، وإرث الصراع الممتد منذ قرن.

2. خطأ إسرائيل البنيوي: تجاهل الذاكرة التاريخية للصراع

رغم تقدمها العسكري، فإن إسرائيل ارتكبت خطأً جوهرياً حين تجاهلت أن الصراع مع أصحاب الأرض لا يُحسم بالقوة وحدها. القصف المتواصل والدمار الذي طال الأبرياء في فلسطين، وسوريا، ولبنان، وحتى العراق، لم ولن يُمحى من ذاكرة الشعوب، بل يغذّي سرديات المقاومة ويُعيد تجذير الكراهية. إن تجاهل هذا البُعد الوجداني يُعدّ فشلاً استراتيجياً، لا تُعالجه تفوّق الطائرات ولا دقة الصواريخ.

3. إيران: القوة غير التقليدية التي تجاوزت التوقعات

خلافًا لتوقعات صانعي القرار في تل أبيب وواشنطن، أظهرت إيران قدرة على الردّ المتماسك، والاستعداد المسبق، والتماسك الداخلي أمام ضربة استهدفت قلب نظامها. الرد الصاروخي المركّز، رغم أنه احدث دمارًا هائلًا في بعض ضرباته، لكنه أوصل الرسالة الحاسمة: إيران قادرة على حماية نظامها، ومستعدة للمواجهة المفتوحة، وهي ليست، للأسف، العراق 2003.

4. استجداء التدخل الأمريكي: لحظة انكشاف العجز

حين وجدت إسرائيل نفسها غير قادرة على تحييد القوة الإيرانية أو تدمير منشآتها النووية، لجأت إلى استجداء تدخل أمريكي مباشر. هذا الطلب لم يكن تعبيرًا عن تحالف متين، بقدر ما كان صرخة عجز سياسي وعسكري، الهدف منه استكمال المهمة التي عجزت عنها تل أبيب. لكنه جاء في لحظة أمريكية مرتبكة، وسط تراجع عالمي في شعبية التدخلات العسكرية.

5. أمريكا وازدواجية المعايير: شرعية دولية في مهب الريح

الهجوم الأمريكي–الإسرائيلي على منشآت نووية إيرانية، خارج إطار قرارات مجلس الأمن، يُعيد التأكيد على أن القانون الدولي أداة تستخدمها القوى الكبرى حين تشاء وتتجاهلها حين لا تخدم مصالحها. لقد تأكد أن مجلس الأمن، كما هو الآن، فقد جزءًا كبيرًا من شرعيته السياسية، وأن الأمم المتحدة مجرد منصة إعلامية لا تردع القوي ولا تنصف الضعيف.

6. قصف “العديد”: نقطة التحول أو إشعار النهاية؟

الهجوم الإيراني على قاعدة العديد في قطر كان نقطة فارقة. فور حصوله، بدأ الحديث عن وقف إطلاق النار، ما يشير إلى أحد احتمالين: إما أن الرد الإيراني قلب الطاولة وأرعب التحالف، أو أن الحرب كانت مرسومة لتصل إلى هذا الحد تحديدًا، منعًا لتوسّعها إلى حرب إقليمية شاملة. في كلتا الحالتين، أثبتت إيران أنها لا ترد فقط، بل تُدير المواجهة بتكتيك محسوب.

7. الداخل الإيراني: معركة الردع لا تُخفي الجراح الأمنية

رغم الانتصار السياسي والإعلامي الذي تحقق، فإن إيران بحاجة إلى مراجعة شاملة على المستوى الأمني. فقد سبقت الحرب سلسلة اغتيالات وعمليات اختراق استخباراتي، تكشف عن نقاط ضعف خطيرة داخل المنظومة. ما بعد الحرب يجب أن يكون مرحلة ترميم داخلي، تُعيد فيه طهران ضبط بوصلتها الأمنية، خاصة في ظل تنامي اختراقات “الموساد” والاستخبارات الغربية.

8. لا انتصار إسرائيلي… رغم القصف والدمار

بالرغم من شدة القصف، لم تحقق إسرائيل أي هدف استراتيجي: لم تُسقط النظام الإيراني، لم تدمر المنشآت النووية، ولم تُوقف برنامج الصواريخ، ولم تَسحق حلفاء إيران. بل زادت من تعقيد المشهد، ورفعت منسوب العداء الدولي والإقليمي ضدها، ما يجعل الحديث عن “انتصار إسرائيلي” مجرّد وهم إعلامي.

9. صعود إيران كقوة ردع إقليمية

الصواريخ الدقيقة، وتعدد جبهات الرد، والصمود تحت الضغط، كلها أعادت لإيران صورتها كقوة إقليمية يُحسب لها ألف حساب. ربما للمرة الأولى منذ سنوات، يُعاد ترتيب أوراق المنطقة على أساس أن إيران ليست فقط جزءاً من المشهد، بل من صُنّاعه. الشرق الأوسط الجديد قد لا يكون خاضعًا لحلم إسرائيل الكبرى، بل مزيجًا معقدًا من النفوذ الإيراني، والصراع المفتوح، والتحالفات الهشة.

الانعكاسات على الواقع العراقي

 1. العراق كأرض اشتباك غير مباشر

العراق تحوّل خلال هذه الحرب إلى ساحة إرسال واستقبال للرسائل العسكرية، من خلال الممرات الجوية للمُسيّرات والطائرات والصواريخ . هذا يضع العراق في قلب معادلة الصراع، دون أن يكون طرفًا مباشرًا، وهو ما يفرض عليه إعادة النظر في سياساته الأمنية والعلاقات الإقليمية.

 2. الخطر على السيادة الوطنية

الهجمات المتبادلة أظهرت هشاشة السيادة العراقية، بعد استهداف مواقع على أراضيه دون تنسيق، ما يتطلب موقفًا وطنيًا حازمًا يضمن أن لا يُستخدم العراق مجددًا كمسرح تصفية حسابات.

 3. تعزيز تيارات المقاومة داخل العراق

نجاح إيران في الردّ سيثير حماسة الفصائل العراقية المتحالفة معها، مما قد يزيد من الضغط على الوجود الأمريكي ويُعقّد مساعي الاستقرار الداخلي.

 4. انعكاسات اقتصادية وأمنية مباشرة

الحرب رفعت منسوب التوتر الإقليمي، ما يؤثر على أسعار النفط، ويضعف الثقة بالاستثمار في العراق. كما أن الخطر من توسّع الحرب كان كفيلاً بزعزعة الوضع الأمني المحلي.

خلاصة

رغم وقف إطلاق النار، فإن الصراع لم ينتهِ بل دخل طورًا جديدًا، قد يكون أكثر تعقيدًا. إسرائيل لم تنتصر، وإيران لم تُهزم. المنطقة بأكملها تقف أمام لحظة إعادة رسم المعادلات، والحسابات القديمة لم تعد صالحة. أما العراق، فهو في قلب هذه التحولات، وعليه أن يُعيد بناء استراتيجيته الوطنية بما يضمن استقراره وأمنه في ظل صراع العمالقة

تعليقات الزوار