En

الأمن الرقمي على طول الممر الأوسط: إدارة المخاطر السيبرانية في أوراسيا المترابطة

أصبح هذا الممر العابر للحدود أداة قوية للترابط بين آسيا وأوروبا بطريقة لم تكن متخيّلة من قبل. ويعكس توسعه المستمر طموحات لوجستية متزايدة ودوراً متنامياً في إعادة تشكيل الهيكل التجاري لأوراسيا. فبعد أن كان شبكة نقل مادية تربط آسيا الوسطى ومنطقة بحر قزوين بأوروبا، تحوّل اليوم إلى منظومة رقمية متكاملة تشمل السكك الحديد، والموانئ، والسلطات الجمركية، ومشغّلي الخدمات اللوجستية.

ومن أبرز التطورات الحديثة اكتمال المسار الثاني للسكك الحديدية على مقطع دوستيك–موينتي في كازاخستان، ما زاد طاقة العبور في ممر الصين–أوروبا خمسة أضعاف. كما دشّن في 15 أكتوبر مسار جديد متعدد الوسائط يربط كاشغر الصينية بحدود الصين–قرغيزستان، في خطوة تجسّد التكامل السلس بين النقل البحري والبري داخل الممر الأوسط. ولا يقل أهمية عن ذلك إطلاق أوزبكستان لمسار جديد متعدد الوسائط في سبتمبر على طول ممر أوزبكستان–قرغيزستان–الصين، ما يعكس ديناميكية توسع مبادرة الممر الأوسط.

ومع تطور الممر ليصبح أحد أكثر الشرايين التجارية حيوية في أوراسيا، تحوّل إلى طريق تجاري عابر للقارات يعتمد على بيئة رقمية متقدمة، تجمع بين النقل البحري والبري والسكك الحديد ضمن نظام لوجستي مترابط. ولم يعد الممر مجرد وسيلة لنقل البضائع، بل أصبح يعمل عبر البيانات والخوارزميات وشبكات الاتصالات الآمنة.

الثورة الرقمية في إدارة حركة البضائع

أدّى الاعتماد المتزايد على المنصات الرقمية إلى تغيير جذري في طريقة انتقال الشحنات عبر الحدود. فأنظمة إدارة النقل الذكية باتت تتيح رؤية لحظية لمسارات الشحنات، بينما تربط منصات تبادل البيانات بين الجمارك والسكك الحديدية والموانئ ضمن بنية تحتية رقمية موحدة.

هذه التكاملية لا تزيد كفاءة النقل فحسب، بل تقلل الأخطاء البشرية وتضمن حركة سلسة للبضائع بين الدول. كما تُختبر تقنيات مثل التتبع عبر RFID، وحساسات إنترنت الأشياء (IoT)، وأنظمة الذكاء الاصطناعي للتنبؤ اللوجستي من أجل تحسين المسارات ومراقبة الشحنات واستباق الاضطرابات المحتملة.

الحوكمة السيبرانية والتنسيق الإقليمي

في هذا السياق، لم تعد الأمن السيبراني مسألة تقنية بل ضرورة استراتيجية. وتشير تحليلات البنك الدولي والبنك الآسيوي للتنمية إلى أن الأمن السيبراني أصبح محوراً أساسياً ضمن الممر الأوسط، إذ تشكّل الأنظمة المعلوماتية — من قواعد بيانات الجمارك إلى شبكات الاتصال في الموانئ — أهدافًا محتملة للهجمات.

ولمواجهة هذه التهديدات، تتجه الدول المشاركة إلى أطر تنسيق مشتركة. فيوصي البنك الآسيوي للتنمية بتبنّي معايير موحّدة للأمن السيبراني، مدعومة بمراكز مراقبة رقمية مشتركة وأنظمة إنذار مبكر للكشف عن الشذوذ في تدفقات بيانات النقل. كما يشجّع شركاء دوليون مثل الاتحاد الأوروبي ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا على استخدام أنظمة تعتمد على البلوكتشين لتوثيق الشحنات والتحقق من صحتها.

لكن الجهود الأكثر فعالية تُنظَّم عبر منصات إقليمية مكمّلة للمبادرات الوطنية، حيث بدأت دول الممر الأوسط التعاون من خلال المبادرة نفسها ومن خلال منظمات أخرى للتعامل مع التهديدات السيبرانية.

CICA: بناء الثقة والأمن الرقمي

في إطار مؤتمر التفاعل وتدابير بناء الثقة في آسيا (CICA)، يُدمج الأمن السيبراني ضمن أجندة واسعة تضم التعاون الأمني. وتستخدم دول مثل أذربيجان وكازاخستان المنصة لتنسيق أمن تكنولوجيا المعلومات ومواجهة التهديدات السيبرانية.

وتولّت أذربيجان رئاسة CICA للفترة 2026–2024 تحت شعار: «CICA أقوى: الاتصال، الرقمنة، والنمو المستدام في آسيا» مع تركيز كبير على تعزيز الصمود الرقمي.

وعلى هامش قمة COP29 في نوفمبر 2024، نظّم الشركاء ضمن CICA فعالية «مسارات نحو الاتصال المستدام» للتركيز على أهمية الاتصال في التنمية المستدامة وتعزيز حماية شبكات النقل من المخاطر المناخية والسيبرانية.

كما تناول منتدى مراكز الفكر الـ13 لـCICA — الذي شارك في تنظيمه مركز التحليل للعلاقات الدولية (AIR Center) ومعهد الدراسات الدولية في شانغهاي (SIIS) — موضوعات الأمن عبر التنمية، التعاون في سلاسل الإمداد خلال التحولات الرقمية والخضراء، والعلاقة بين مبادرة الحزام والطريق (BRI) والممر الأوسط والممر الدولي الشمالي–الجنوبي.

وفي 16 أكتوبر 2024، نظّم وزارة التنمية الرقمية والنقل الأذربيجانية ورشة عمل بعنوان تعزيز الصمود السيبراني، ركّزت على تبادل الخبرات ورفع القدرات، وأكّدت أهمية التوعية العامة من المدارس إلى كبار السن، بالإضافة إلى الشراكات مع المصارف وشركات الاتصالات.

وشدد المشاركون على ضرورة التعاون العابر للحدود بين فرق الاستجابة لطوارئ الحاسوب (CERT) لتسريع الإنذار والاستجابة المنسقة، وتقوية النظام الرقمي عبر دعم الجهات الأقل موارد.

ورغم محدودية قدرة CICA التنفيذية، إلا أنها تؤدي دورًا دبلوماسيًا ومعياريًا مهمًا يعزز التخطيط الإقليمي لحماية البيانات وتبادل المعلومات لبناء الثقة.

منظمة شنغهاي للتعاون SCO: ثقل عملياتي في الأمن السيبراني

تضيف منظمة شنغهاي للتعاون وزناً عمليًا عبر هيكلها الإقليمي لمكافحة الإرهاب (RATS)، الذي يدعم تبادل المعلومات حول الإرهاب والتهديدات السيبرانية وإجراء تدريبات مشتركة تشمل سيناريوهات الحرب المعلوماتية والدفاع السيبراني.

وتعمل دول مثل كازاخستان والصين على آليات استجابة موحدة ومعايير أمنية للممر الأوسط، بما يتماشى مع مبادرة الحزام والطريق وطريق الحرير الرقمي.

منظمة الدول التركية OTS: نحو مجلس للأمن السيبراني

رفعت منظمة الدول التركية من مستوى اهتمامها بالأمن السيبراني، حيث ناقش قادتها في قمة غابالا (6–7 أكتوبر 2025) تأسيس مجلس الأمن السيبراني للدول التركية لتنسيق الجهود ومواجهة التهديدات العابرة للحدود.

وتناول النقاش حماية البنية التحتية الحساسة في مجالات الطاقة والنقل والاتصالات والخدمات العامة، والحاجة لتدريبات مشتركة، ودعم رؤية «العالم التركي 2040».

وفي إطار OTS+ توسعت مجالات التعاون، بما فيها مبادرات مثل «مسار ترامب للسلام والازدهار» كجزء محتمل من الممر الأوسط.

طريق الحرير الرقمي: البنية التحتية الصينية للأمن السيبراني

يشكّل طريق الحرير الرقمي ضمن الحزام والطريق ركيزة رئيسية لبناء أساس رقمي آمن للممر الأوسط. وتستفيد دول مثل كازاخستان وأذربيجان وجورجيا من استثمارات في الألياف الضوئية، وشبكات 5G، ومنصات الحوسبة السحابية.

ولا تعزز هذه الاستثمارات الطاقة الاستيعابية للبيانات فحسب، بل تفرض أطرًا موحّدة للأمن السيبراني، تدعم الدفاع ضد هجمات الفدية والهجمات على سلاسل التوريد وتسريب البيانات.

نحو إطار موحّد لحوكمة رقمية للممر الأوسط

تحتاج دول الممر إلى إنشاء إطار حوكمة رقمية مشترك يشمل:

معايير موحدة لحماية البيانات

بروتوكولات تشفير متوافقة

آليات شفافة لتدفقات البيانات عبر الحدود

آليات ملزمة لحل النزاعات السيبرانية

تحديد واضح للمسؤوليات

الاعتراف المتبادل بالشهادات الرقمية

ولتجاوز التجزئة المؤسسية، يجب أن تُعيَّن مبادرة الممر الأوسط نفسها كمنصة تنسيق مركزية، مع استثمار الموارد المتخصصة لـCICA وSCO وOTS وBRI.

على مستوى رأس المال البشري

الاستثمار في القدرات البشرية غير قابل للتفاوض، ويشمل:

تدريب العاملين في الجمارك على بروتوكولات البيانات الآمنة

رفع وعي العاملين في الموانئ بأساليب الهندسة الاجتماعية

تدريب مديري اللوجستيات على تقييم المخاطر السيبرانية

الخلاصة: مفترق طرق رقمي للممر الأوسط

إن تحويل التطور الرقمي إلى أمن دائم يتطلب بنية رقمية شاملة ترافق التوسع الفيزيائي للممر، وتدمج الدفاع المشترك والقواعد المنسقة وتنمية القدرات.

ولتحقيق ذلك يحتاج الممر إلى:

نظام تبادل استخباراتي فوري حول التهديدات

استجابة مشتركة للحوادث

أدوات مراقبة متناغمة

مركز إقليمي للعمليات السيبرانية

إضافة إلى أنظمة متوافقة لحوكمة البيانات تشمل الخصوصية والتشفير والتخزين.

ولا يقل أهمية الاستثمار المستمر في رأس المال البشري عبر تدريبات مشتركة وبرامج محاكاة ورفع الوعي المجتمعي الرقمي.

وإذا جرى دمج جهود CICA وSCO وOTS وطريق الحرير الرقمي في منظومة متكاملة، سيكون الممر الأوسط قادرًا على تقديم ما يعد به موقعه الجغرافي: جسر مرن وآمن بين آسيا وأوروبا في عصر تتصاعد فيه المخاطر السيبرانية.

تعليقات الزوار