بينما تتسارع المنافسة العالمية نحو الهيمنة على الطاقة النظيفة، تدور معركة أخرى أكثر خفاءً لكنها لا تقل أهمية: معركة المعادن الأساسية التي تُشكّل العمود الفقري للاقتصاد الصناعي الجديد.
الليثيوم والنيكل والكوبالت والجرافيت وعناصر الأرض النادرة أصبحت الذهب الجديد للقرن الحادي والعشرين، إذ تعتمد عليها الصناعات المتقدمة من السيارات الكهربائية إلى أنظمة الطاقة المتجددة والتقنيات الدفاعية والإلكترونية.
لكن بالنسبة إلى أوروبا، فإن تأمين هذه الموارد بات مسألة بقاء صناعي. فرغم الخطط الطموحة والتصريحات السياسية، لا تزال القارة متأخرة كثيراً عن منافسيها الكبار.
فالولايات المتحدة والصين وأستراليا تمكّنت من تأمين الإمدادات وإنشاء مخزونات استراتيجية، بينما ما تزال أوروبا عالقة بين الخطط النظرية والتنفيذ البطيء.
أزمة الاعتماد الخارجي
تعتمد أوروبا بشكل شبه كامل على استيراد المعادن الحرجة من عدد محدود من الدول التي تهيمن على الإنتاج والتكرير العالمي.
هذا الاعتماد المفرط يجعل الصناعات الأوروبية — من تصنيع السيارات إلى إنتاج البطاريات — عرضة للتقلبات الجيوسياسية والقيود التجارية.
وتُعد الصين اللاعب الأقوى في مجال تكرير ومعالجة المعادن، حيث تسيطر على نسبة كبيرة من القدرات العالمية، في حين أن الولايات المتحدة عززت قدراتها المحلية وأنشأت احتياطيات وطنية لمواجهة الصدمات.
أما أوروبا، فما زالت تفتقر إلى البنية التحتية والروح الاستراتيجية اللازمة للتحرك السريع.
النتيجة: فجوة استراتيجية آخذة في الاتساع، تهدد بأن تتحول أوروبا إلى قوة تكنولوجية بلا مواد خام تسند طموحاتها.
خطط على الورق.. وبطء في التنفيذ
أطلقت المفوضية الأوروبية “قانون المواد الخام الحرجة”، وهو خطة شاملة لتعزيز الإنتاج المحلي وبناء قدرات المعالجة والتدوير بحلول عام 2030.
الهدف: أن يتم تلبية جزء من احتياجات القارة من داخلها.
لكن الواقع مختلف؛ فالمشاريع تواجه عوائق تنظيمية ضخمة وتأخيرات طويلة ومعارضة بيئية، ما يجعل التنفيذ بطيئاً ومكلفاً.
حتى المشاريع التجريبية تحتاج إلى سنوات لتبدأ العمل، وهو ما يعكس المعضلة الأوروبية التقليدية: وفرة اللوائح، وغياب التنفيذ السريع.
عقبات هيكلية تعرقل النهضة المعدنية
تكمن المشكلة في بنية الاقتصاد الأوروبي نفسه، وليس في الإرادة السياسية فقط. القارة تفتقر إلى احتياطيات معدنية كبيرة مقارنة بمناطق مثل أستراليا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا.
وفي الدول التي تملك بعض الثروات — مثل السويد والبرتغال وشرق أوروبا — تُعد المناجم صغيرة أو صعبة الاستغلال.
إضافة إلى ذلك، تستغرق عمليات الترخيص أكثر من عشر سنوات، بينما يخشى المستثمرون التقلبات السياسية والبيئية.
وفوق ذلك، ترسل أوروبا خاماتها إلى آسيا لتكريرها ثم تستوردها كمنتجات جاهزة، وهو ما يجعلها تدفع ثمن التعدين دون أن تجني القيمة المضافة أو السيطرة الاستراتيجية.
ولا تمتلك أوروبا حتى الآن نظاماً موحداً لتخزين المعادن الحيوية، على غرار الاحتياطيات النفطية، بسبب الخلافات حول التمويل والملكية والإدارة.
ما المطلوب للحاق بالمنافسين؟
يرى الخبراء أن اللحاق بالركب يتطلب تحولاً جذرياً في التفكير الصناعي الأوروبي يقوم على:
تسريع مشاريع التعدين والمعالجة الاستراتيجية عبر تقليص البيروقراطية دون المساس بالمعايير البيئية.
إنشاء احتياطي أوروبي موحد للمعادن الحرجة لمواجهة الأزمات وتقلبات السوق.
تنويع الشركاء التجاريين والتوجه إلى إفريقيا وأمريكا اللاتينية ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ بعقود طويلة الأمد تراعي العدالة البيئية والتجارية.
الاستثمار في التدوير لاستخراج المعادن من البطاريات والإلكترونيات المستعملة لتقليل الاعتماد على الواردات.
تعبئة رؤوس الأموال من البنوك الأوروبية والقطاع الخاص لتجاوز مرحلة المشاريع التجريبية إلى التصنيع واسع النطاق.
اختبار للنضج الاستراتيجي
تواجه أوروبا اختباراً حقيقياً لقدرتها على التحول من الخطاب إلى الفعل. فقد علّمتها أزمات الطاقة وجائحة كورونا أن الاعتماد على الآخرين مكلف، لكن يبدو أن الدروس لم تُترجم بعد في قطاع المعادن.
وإذا لم تتحرك سريعاً، قد تجد القارة نفسها تقود التحول الأخضر نظرياً فقط، بينما تعتمد فعلياً على “معادن مستعارة” من خصومها الجيوسياسيين.
فالسباق على المعادن ليس مجرد سباق موارد، بل سباق على النفوذ والسيادة والقدرة على رسم مستقبل الاقتصاد العالمي.
             
            
تعليقات الزوار