En

التصعيد التجاري الأمريكي يعيد رسم موقع الهند في النظام الدولي

احمد الوندي - نائب رئيس المؤسسة ومتخصص في مخاطر أمن الطاقة

يصعب حتى الآن تحديد المدى الكامل لتأثير الرسوم الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة بنسبة 50% على الصادرات الهندية، غير أن المؤشرات الأولية توحي بأن التداعيات ستكون ثقيلة على الاقتصاد الهندي وعلى مسار علاقاته مع واشنطن.

فالولايات المتحدة برّرت هذه الخطوة بالعجز في الميزان التجاري لصالح الهند، وبارتفاع العوائق الجمركية، إضافة إلى استمرار نيودلهي في استيراد النفط الروسي. وقد شملت الإجراءات أكثر من ثلثي الصادرات الهندية المتجهة إلى السوق الأمريكية، مع فرض رسوم إضافية على قطاع الخدمات من خلال رسم قدره 100 ألف دولار على تأشيرات العمل من نوع H1B، التي يعتمد عليها بشكل واسع الكفاءات الهندية.

التقديرات الأولية تشير إلى أن الصناعات الأكثر عرضة للضرر هي تلك التي تعتمد على اليد العاملة بكثافة، مثل صناعة الأقمشة والحلي، حيث يتوقع أن تهبط مبيعاتها بنسب تصل إلى 70%–90% خلال عام واحد.

كما أن قطاع الإلكترونيات أظهر مؤشرات تراجع واضحة، إذ انخفضت صادرات الهواتف الذكية إلى الولايات المتحدة في أغسطس إلى أقل من مليار دولار بعد أن كانت ملياري دولار في يونيو، رغم أن هذه الفئة لم تُدرج رسمياً ضمن قائمة الرسوم الإضافية. هذا الانحدار يعكس هشاشة الفائض التجاري الهندي البالغ نحو 41 مليار دولار، ويظهر أن الضغوط الأمريكية بدأت تترك أثرها قبل صدور البيانات الرسمية الكاملة.

على المستوى السياسي، خلقت هذه الإجراءات ارتباكاً داخل القيادة الهندية. فبينما يكرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الحديث عن "علاقته الشخصية" برئيس الوزراء ناريندرا مودي، فإنه لا يتردد في اتهام نيودلهي بدعم موسكو عبر مشترياتها النفطية المخفضة، ويُظهر نفسه كصاحب دور في إدارة أزماتها الإقليمية مع باكستان. هذا التباين في الخطاب أضعف من صورة مودي داخلياً وفتح الباب أمام المعارضة للتشكيك في قدرته على حماية موقع الهند أمام القوى الكبرى.

أما في ملف الطاقة، ترى واشنطن أن استمرار نيودلهي في شراء النفط الروسي بأسعار تفضيلية يمثل دعماً مباشراً لموسكو، في حين تعتبر الهند أن هذا القرار جزء من سيادتها في إدارة أمنها الطاقي. ورغم انخفاض نسبي في الكميات المستوردة منذ فرض العقوبات الأوروبية، إلا أن مصافي كبرى مثل "ريلاينس" و"نايارا" ما زالت تعتمد بشكل واسع على الخام الروسي، وسط صعوبات متزايدة في النقل والتأمين بسبب القيود الغربية. وقد أسهمت القرارات الأمريكية الأخيرة في رفع كلفة الشحن، بعد توقف مجموعة "أداني" عن استخدام السفن الخاضعة للعقوبات، الأمر الذي دفع بعض المصافي للبحث عن بدائل أكثر كلفة.

جيوسياسياً، تجد الهند نفسها أمام معادلة معقدة. فمن جانب، هي تعزز تعاونها مع روسيا والصين في إطار منظمة شنغهاي للتعاون والتدريبات المشتركة، ومن جانب آخر ما زالت خلافاتها الحدودية مع بكين متجددة منذ أحداث الهيمالايا، مع استمرار النزاع على الأراضي في الشمال الشرقي. وبينما تجاوز عجزها التجاري مع الصين 100 مليار دولار، واقترب مع روسيا من 60 مليار دولار، تبقى الولايات المتحدة السوق الأهم للصادرات الهندية، وهو ما يمنحها ورقة ضغط يصعب على نيودلهي كسرها.

الهند اليوم أمام مفترق طرق: فهي لا تريد التفريط باستقلال قرارها في ملف الطاقة وعلاقتها مع موسكو، لكنها تدرك في الوقت ذاته أن خسارة السوق الأمريكية قد تكون مدمرة. هذه المعضلة تضع حكومة مودي تحت ضغط متصاعد بين واشنطن من جهة، وبكين وموسكو من جهة أخرى، في لحظة حساسة قد تعيد صياغة موقع الهند في النظام الدولي.

الاستنتاجات

التصعيد التجاري الأمريكي تجاه الهند لا يُقرأ في إطاره الثنائي فقط، بل يندرج ضمن توجه أمريكي أوسع لاستخدام الرسوم والعقوبات كأدوات سياسية لإعادة تشكيل علاقاتها مع القوى الصاعدة. هذا الاتجاه يفرض على الاقتصادات الناشئة صعوبة التوفيق بين مصالحها التجارية واستقلال قرارها السيادي.

تجربة الهند توضح أن الدول المرتبطة بالنفط الروسي باتت عرضة لضغوط متزايدة، سواء عبر رسوم مباشرة أو من خلال وسائل غير تقليدية مثل رفع تكاليف النقل والتأمين أو فرض قيود إضافية على قطاعات غير مرتبطة بالنفط. وهذا يعكس أن التنافس الجيوسياسي لم يعد محصوراً في السياسة والأمن، بل أصبح الاقتصاد ساحة أساسية للصراع.

على الصعيد الإقليمي، يُرجّح أن تؤثر هذه المستجدات على أسواق الطاقة في الشرق الأوسط، خصوصاً بالنسبة لنفط الخليج والعراق. فإذا تقلصت حصة روسيا في السوق الآسيوية بفعل الضغوط، قد تتاح فرص جديدة أمام النفط العراقي للتوسع. وفي المقابل، فإن أي اضطرابات في التجارة العالمية أو تشديد القيود الأمريكية قد يضاعف حالة عدم اليقين بشأن إيرادات الطاقة في المنطقة، ما يجعل المستقبل مفتوحاً بين احتمالات النمو وارتفاع المخاطر.

تعليقات الزوار