
التفاوض كإدارة مخاطر: عراقجي وأسلوب التفاوض الإيراني

العراق يواجه التطرف الالكتروني: معركة جديدة بعد داعش

تقرير "غداً" لإدارة المخاطر عام 2025

المغرب تدمج الذكاء الاصطناعي لمواجهة التحديات الأمنية

تقرير المخاطر العالمية 2024

لم تحظَ السفن الحربية الأمريكية التي اقتربت من المياه الفنزويلية في وقت سابق من هذا العام بتغطية إعلامية واسعة، إذ طغت عليها أصداء الأزمات في أوكرانيا وبحر الصين الجنوبي. ومع ذلك، فإن هذا الحشد الهادئ ليس صدفة؛ بل هو جزء من نمط طويل الأمد لواشنطن في استهداف أنظمة تقع عند تقاطع الطاقة والجيوسياسة.
وفنزويلا، التي تجلس فوق أكبر احتياطي نفطي مؤكد في العالم، ما تزال مربعاً لا غنى عنه في رقعة الشطرنج العالمية، رغم سنوات الانهيار الاقتصادي. والسؤال الجدير بالطرح: لماذا تواصل الولايات المتحدة الضغط على فنزويلا وإيران وروسيا، بل وتشتبك حتى مع مستهلكين صاعدين للنفط مثل الهند؟ الجواب يكمن في مزيج من أمن الطاقة التقليدي، ومنطق العقوبات، ونسخة القرن الحادي والعشرين من حروب الرسوم الجمركية.
الطاقة والإمبراطورية ومنطق السيطرة
منذ بدايات الحرب الباردة وحتى حروب الخليج، كان النفوذ الأمريكي مرتبطاً بالنفط. تأمين الوصول إلى موارد الطاقة لم يكن مسألة استهلاك فحسب، بل مسألة نفوذ؛ فمن يسيطر على تدفقات النفط يسيطر على شرايين الاقتصاد العالمي. وفنزويلا، مثل إيران وروسيا، تقع ضمن فئة الدول الغنية بالطاقة ولكن ذات الشرعية السياسية الضعيفة في نظر واشنطن. هذه الدول، نظرياً، قد تهدد النظام الدولي بقيادة أميركا عبر "تسليح" إمدادات النفط.
إدارة الرئيس ترامب أعادت تفعيل هذا المنطق بشكل صريح؛ فالعقوبات على شركة النفط الوطنية الفنزويلية (PDVSA) وشركة النفط الإيرانية الوطنية والعمالقة الروس لم تكن مجرد عقوبات عقابية، بل أدوات حصار اقتصادي تهدف إلى تجفيف مصادر تمويل الخصوم، مع جعل النفط الصخري الأمريكي أكثر تنافسية عالمياً. أما "حرب الرسوم" مع الصين، وبالتمديد مع الهند، فكانت تصب في الهدف نفسه: إضعاف الشراكات البديلة للطاقة وإعادة توجيه التدفقات التجارية نحو شبكات أكثر ملاءمة لواشنطن.
فنزويلا: بيدق أم جائزة؟
فنزويلا ليست مجرد دولة نفطية، بل ساحة رمزية في صراع أوسع. بالنسبة لواشنطن، فإن بقاء نيكولاس مادورو يمثل تذكيراً بأن الأنظمة الاستبدادية قادرة على الصمود في وجه الضغط الغربي عندما تحظى بمظلة حماية روسية وصينية. أما بالنسبة لموسكو وبكين، فإن دعم كاراكاس منخفض التكلفة لكنه بالغ الرمزية، إذ يعطل الهيمنة الأميركية في نصف الكرة الغربي.
وقد تجلّى هذا البعد الرمزي مؤخراً في خطوات دبلوماسية مباشرة: عندما نشرت واشنطن سفناً حربية قرب سواحل فنزويلا، أدانت بكين الخطوة باعتبارها انتهاكاً للسيادة، وجددت دعمها العلني لمادورو.
في المقابل، تبنت الهند موقفاً أكثر حذراً؛ فبعد ارتباط تاريخي بالنفط الفنزويلي، تراجعت نيودلهي عن الاستيراد هذا العام تحت تهديدات الرسوم الأميركية، مفضلة الحياد الاستراتيجي. هذه التباينات تكشف كيف تحولت فنزويلا إلى مسرح تُجسَّد فيه خطوط التصدع المتعددة الأقطاب في الزمن الحقيقي.
المفارقة أن صناعة النفط الفنزويلية اليوم ليست سوى ظل لما كانت عليه. عقود من سوء الإدارة والعقوبات خفضت الإنتاج إلى مستويات لم تكن متصورة في تسعينيات القرن الماضي. ومع ذلك، تظل الاحتياطيات المدفونة تحت الأرض بمثابة "تأمين جيوسياسي" ضد سيناريوهات مستقبلية قد يتعطل فيها إمداد الشرق الأوسط. أما المناورات البحرية الأمريكية حول فنزويلا، فهي تحمل رسالتين مزدوجتين: لكاراكاس بأن واشنطن ما زالت تملك أدوات الإكراه، وللأسواق العالمية بأن الهيمنة الأميركية في نصف الكرة الغربي غير قابلة للتفاوض.
الرسوم والعقوبات وتحولات الاقتصاد العالمي
يُنظر غالباً إلى العقوبات والرسوم باعتبارهما أداتين منفصلتين، لكنهما في الممارسة يندمجان. من خلال معاقبة فنزويلا وإيران وروسيا، تضيق واشنطن مجال التنافس أمام موردي النفط عالمياً. ومن خلال فرض الرسوم على الهند والصين، تقلص في الوقت نفسه قدرة كبار المستهلكين على المساومة. النتيجة: تعزيز دور الولايات المتحدة كمنتج للطاقة (بفضل النفط الصخري) وكحارس لبوابة تجارة الطاقة (عبر العقوبات المالية والهيمنة البحرية).
لكن هذه الاستراتيجية محفوفة بالمخاطر؛ إذ سرّعت العقوبات تجارب "التخلص من هيمنة الدولار"، حيث توسع روسيا والصين تجارة النفط بالروبل واليوان. أما الهند، العالقة بين إغراء النفط الروسي الرخيص والضغوط الأميركية، فتسعى إلى المناورة. حتى فنزويلا، رغم وضعها كدولة "منبوذة"، لجأت بهدوء إلى صفقات مقايضة مع الأسواق الآسيوية. وباختصار، فإن الضغط الذي كان يضمن النفوذ الأميركي بدأ يفرز بدائل جديدة.
أصداء التاريخ
لفهم ما يحدث اليوم، يكفي العودة إلى التاريخ. نهج واشنطن تجاه خصومها الأغنياء بالنفط ليس جديداً؛ بل نصّ متكرر: انقلاب 1953 في إيران، العقوبات على العراق في التسعينيات، الحصار البحري على كوبا—all تعكس عقيدة ترى أن الطاقة والأيديولوجيا وجهان لعملة واحدة.
لكن التاريخ يذكّر أيضاً بأن هذه السياسات نادراً ما تُحقق نصراً حاسماً. العقوبات تميل إلى تقوية الأنظمة بدلاً من إسقاطها. الرسوم تستدعي الرد بدلاً من الامتثال.
وتشير تحليلات حديثة إلى ذلك، منها دراسة لموقع Investopedia تفيد بأن الإفراط في استخدام العقوبات بالدولار سرّع وتيرة فك الارتباط بالدولار، حيث تراجعت حصة العملة الأميركية من الاحتياطيات العالمية إلى أقل من 47% مع تزايد التحول نحو الذهب واليوان والعملات المحلية. فنزويلا تحت حكم مادورو تبدو أقل كدولة على وشك الانهيار وأكثر كدولة عالقة في انهيار دائم: ضعيفة جداً على أن تنهض، وعنيدة جداً على أن تموت.
عدسة نظرية: واقعية بواجهة ليبرالية جديدة
تقدم نظريات العلاقات الدولية أدوات لفهم الموقف الأميركي:
الواقعيون: يرون أن واشنطن تتحرك بدافع مصالح بنيوية بحتة، لمنع الخصوم من استخدام الطاقة كسلاح.
الليبراليون الجدد: يشيرون إلى أن هذا الإكراه مغلف بخطاب الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية السوق. فالعقوبات تُقدَّم كأداة أخلاقية، بينما هي في الواقع أدوات اقتصادية للهيمنة. أما الرسوم فتُسوَّغ كتصحيح لـ "التجارة غير العادلة"، في حين أن وظيفتها الأعمق هي تكريس التفوق الاستراتيجي.
وبذلك تؤدي الولايات المتحدة لعبة توازن دقيقة: تمارس سياسة القوة الواقعية بواجهة خطاب ليبرالي. وتصبح فنزويلا ليس فقط دولة يجب "تأديبها"، بل حالة دراسية تُظهر كيف يحافظ النظام الأميركي على نفسه عبر الضغط الاقتصادي بدلاً من الغزو المباشر.
الخاتمة: رهان محفوف بالمخاطر
قد لا تتحول محاصرة فنزويلا بحرياً إلى مواجهة مفتوحة، لكنها تشير إلى نمط أوسع: رفض واشنطن التخلي عن الجيوسياسة النفطية كمرتكز لهيمنتها العالمية. من خلال استهداف فنزويلا وإيران وروسيا، والدخول في نزاعات تجارية مع الهند والصين، تعيد الولايات المتحدة التأكيد على نفسها كوسيط محوري للنفط والتجارة.
لكن الرهان هو: هل يمكن لهذه الاستراتيجية أن تصمد في عالم يتجه إلى التعددية القطبية؟ الإنهاك من العقوبات يتزايد، حروب الرسوم تُضعف التحالفات، وبنى مالية جديدة بدأت تُقوِّض احتكار الدولار. والتاريخ يذكّر بأن القوى العظمى كثيراً ما تُفرط في التمدد. الولايات المتحدة مهددة بأن تتعلم هذا الدرس بطريقة قاسية، وفنزويلا قد تصبح ليس مجرد "بيدق" يُحاصر، بل مرآة تكشف حدود القوة الأميركية.
كالياني ييولا - باحثة أولى في معهد بيرلا للتكنولوجيا والعلوم، الهند.
تعليقات الزوار