ثقافة الالتزام تقلل المخاطر وترفع الأداء

الالتزام في المؤسسة الناجحة هو النبض الخفي الذي يحرك كل إنجاز نحو التميز، إذ يتجاوز كونه مجرد لوائح وأنظمة تنظيمية ليُصبح ثقافة متجذرة في السلوك التنظيمي. تعكس هذه الثقافة منظومة من القيم والممارسات التي تُوجّه العاملين نحو أداء منسجم مع رؤية المؤسسة وأهدافها الاستراتيجية.

وتؤكد الأدبيات الحديثة في الإدارة أن ترسيخ ثقافة الالتزام يسهم في رفع جودة الأداء الإداري والتعليمي، كما تعزز من الكفاءة التشغيلية والاستقرار طويل المدى والحد من المخاطر، وتُظهر الدراسات أن المؤسسات التي تتبنى هذه الثقافة تحقق مستويات أعلى من الأداء، مقارنةً بتلك التي تفتقر إلى نهج واضح في هذا الجانب. حيث أن إرساء الالتزام داخل المؤسسة ينعكس في تبسيط الإجراءات وتحديد الممارسات وتقليل الأخطاء، كما يوفر بيئة تنظيمية داعمة تسهم في تحسين جودة المخرجات التعليمية، بما يضمن التوافق مع الأنظمة الصادرة عن وزارة التعليم والجهات الرقابية، ويعزز من وضوح الأدوار وتوثيق الإجراءات، الأمر الذي يدعم تطبيق الحوكمة وبناء الثقة مع أولياء الأمور والمجتمع ، وتشير دراسات حديثة إلى أن الالتزام المؤسسي، إلى جانب المعرفة والموقف والوعي، يلعب دورًا جوهريًا في تحسين فعالية إدارة المخاطر داخل المؤسسات، مما يُساهم بوضوح في تقليل مصادر الفشل وزيادة قدرة التعامل مع الحالات الطارئة (Faruque et al., 2024),.

كما بينت دراسة صادرة عن جامعة حائل والمنشورة في مجلة جامعة أم القرى (سبتمبر 2024) أن متطلبات الحوكمة، عبر الشفافية والمساءلة، تعزز القيادة التعليمية وتحسن الأداء المؤسسي من خلال ترسيخ ثقافة الالتزام، ما يؤكد أن الالتزام ليس مجرد إطار قانوني، بل أداة استراتيجية ترفع مستوى الأداء وتضمن الجودة وتحافظ على السمعة المؤسسية.

وتنبع هذه الثقافة من قناعة راسخة بكونها عنصراً تمكين وموجّهاً نحو تحقيق الأهداف وتقليل الانحرافات، ما يبرز أهمية القيادة في دعم هذا التوجه. فحين يكون القادة، قدوة في الامتثال، ينعكس ذلك إيجابًا على سلوك الموظفين، ويعزز من بيئة العمل المبنية على الالتزام الذاتي، مما يرسخ جودة الأداء ويدعم التميز المؤسسي.

وقد أثبتت التجارب المحلية بالمملكة نجاح هذا النموذج، كما هو الحال مع الهيئة العامة للغذاء والدواء التي طورت منظومة رقابية وتدريبية رفعت من مستويات الامتثال والجودة، مما جعلها نموذجًا رائدا بالمنطقة. كذلك قدّمت الهيئة العامة للطيران المدني نموذجاً فعّالاً في الالتزام خلال جائحة كورونا، حيث حافظت على استمرارية تقديم الخدمات بجودة عالية وساهمت في الحد من المخاطر المؤسسية بشكل ملموس.

وفي إطار سعيها لتعزيز الحوكمة وترسيخ مبادئ الالتزام، حرصت وزارة التعليم على تبني منهجية علمية تهدف إلى دمج هذه القيم في صميم المنظومة الإدارية والتعليمية، من خلال تطوير أدوات استباقية لرصد التحديات، وتطبيق برامج للقياس الذاتي، إلى جانب تنفيذ خطط تصحيحية تدعم مسيرة التحسين المستمر. وبناءً على هذا التوجه، تبنت الإدارة العامة للتعليم بمحافظة جدة نفس المسار الاستراتيجي، حيث عملت على دمج مبادئ الالتزام المؤسسي ضمن خططها التشغيلية، بما يضمن التوافق مع متطلبات الحوكمة الرشيدة. كما بادرت إلى تنفيذ برامج تدريبية وورش عمل تستهدف رفع مستوى الوعي المؤسسي بمفاهيم الحوكمة وإدارة المخاطر والامتثال، إلى جانب تفعيل أدوات متابعة وتقييم دورية لرصد الأداء وتحديد مجالات التحسين واتخاذ الإجراءات التصحيحية اللازمة. وذلك إيمانًا بأهمية التحول نحو بيئة تعليمية مرنة ومستدامة، قادرة على مواكبة المتغيرات وتعزيز الابتكار، بما يعزز من جاهزية المؤسسات التعليمية للتعامل مع التحديات بكفاءة، ويسهم في تحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030 المتعلقة باستمرارية الأعمال والتميز في تقديم الخدمات التعليمية.

 

بقلم د. عبدالمعتني المزروعي - متخصص وباحث بعلم إدارة المخاطر والأزمات

تعليقات الزوار