غياب التكيّف في السياسة العراقية: فكرة نقدية لتطلعات مستقبلية

مؤسسة غداً لإدارة المخاطر - خاص

تُعرّف السياسة بأنها "فن الممكن"، أي القدرة على تطويع الظروف والموارد بما يحقق المصالح الوطنية العليا. وفي السياق ذاته، تتجلّى سمات القيادة الفعّالة في الإدراك الواعي للبيئة المحيطة، والمرونة الفكرية العالية، والقدرة على التكيّف مع المتغيرات. غير أن تلك الخصائص الجوهرية افتقدتها السياسة العراقية على نحوٍ مزمن ومستمر.

فمنذ نشأة الدولة العراقية المعاصرة، ظلّت تعاني من قصور في أهم ميزة استراتيجية على امتداد تاريخها، وهي القدرة على التكيّف والتطور. فعند مواجهة حدث طارئ أو تحوّل بنيوي—أياً كان نوعه ومصدره—، يبقى الفكر والإدراك والخطاب والأدوات رهينة للحظة تاريخية سابقة دون القدرة على تجاوزها والانتقال إلى مقاربةٍ جديدة. بل إن أي خطاب إصلاحي أو تجديدي قد يُتَّهم - بشكل منهجي - بأنه مؤامرة تُحاك ضد النظام السياسي القائم، بما يُرسّخ حالة الجمود ويُعطّل آليات التطور الطبيعي.

تُنتِج هذه الظاهرة فجوةً عميقة بين ما ينبغي أن يكون وما هو قائمٌ فعلاً، مما يترتب عليه أربع نتائج رئيسة:

أولاً: استنزاف مستمر للموارد المادية والبشرية نتيجة تكرار السياسات غير الفعّالة.

ثانياً: تشويش في بوصلة تعيين المصالح الوطنية وفقاً للمتغيرات السياقية المحلية والإقليمية والدولية.

ثالثاً: تآكل القدرة التنافسية للدولة في النظام الدولي، نتيجة التأخر في مواكبة التحولات الاستراتيجية. 

رابعاً: تفاقم النزاعات والصراعات الداخلية بما يقوّض وحدة الدولة وأمنها واستقرارها.

إن ضعف القدرة على التكيّف وسوء الإدراك الاستراتيجي للمتغيرات يُكبِّلان الدولة العراقية بسلاسل الماضي وإرثها، فيحرمانها من استثمار الفرص الجديدة المتاحة، ويُعطّلان عملية تجديد أدواتها ووسائلها. ويضعفان القدرة على تشخيص التهديدات المتجددة. وهكذا تغدو الأدوات مُنهَكة ومستنزفة، والطرائق بالية وغير ملائمة لروح العصر، فيما يرتدّ التفكير إلى أطرٍ تقليديةٍ لم تعد تتناسب مع تعقيدات المشهد الجيوسياسي الراهن.

لقد أضحت ظاهرة عدم التكيّف سمةً سلبية ملازمة للسياسة العراقية، تُشكِّل آفة استراتيجية تقوّض الأهداف الوطنية وتحطمها، وتستنزف الموارد، وتُكرّس رهن القرار السياسي لمعطيات ماضوية تجاوزها الزمن. وهو ما يستدعي مراجعة نقدية شاملة للأطر الفكرية والمؤسسية التي تحكم صناعة القرار السياسي في العراق.

د. عادل بديوي - رئيس دائرة المخاطر الجيوسياسة في مؤسسة غدا لادارة المخاطر

 عميد كلية العلوم السياسة- بغداد

تعليقات الزوار