الذاكرة البيئية والعدالة المناخية

لو كان لهذه الأرض أن تتحدث، لقصّت علينا حكاية تمتد لقرون، ليس عن النضال من أجل السيادة السياسية فحسب، بل عن ذاكرة بيئية منسية.

ومع احتفال باكستان بالذكرى الـ78 للاستقلال، يبرز سؤال حتمي: هل تحررنا حقاً؟ أم أن أجزاءً منا ما زالت أسيرة لظلم بيئي، ومؤسسات هشة، وأنظمة موروثة تقوّض قدرتنا على حماية الأرض وسكانها؟ هذا السؤال ليس بلاغياً، بل يمثل جوهر معركتنا المقبلة.

إرث من الكوارث المناخية

منذ عام 1947 وحتى 2021، شهدت باكستان 28 فيضاناً نهرياً مدمراً، بدءاً بفيضان 1950 الكارثي، وتكراراً شبه سنوي منذ 2010. هذه الكوارث أثرت على أكثر من 616 ألف كيلومتر مربع، وأودت بحياة 13,262 شخصاً، وتسببت بخسائر اقتصادية تتجاوز 39 مليار روبية.

في 2022، سجلت البلاد كارثة تاريخية جديدة، إذ هطلت أمطار في بعض المناطق بثلاثة أضعاف المعدل المعتاد، ما أدى إلى فيضانات ضربت أكثر من 33 مليون شخص، وخسائر اقتصادية قُدرت بـ30 مليار دولار وفق البنك الدولي.

هذه ليست مجرد "كوارث طبيعية"، بل هي انعكاس لما يسميه الخبراء "الأزمة المتعددة الأوجه" (Poly-crisis) حيث يتقاطع تغيّر المناخ مع انهيار أنظمة الحوكمة وتدهور البيئة، في دوامة تضاعف آثارها الكارثية.

طبقات الضعف التاريخي

لم تبدأ اختلالاتنا الهيكلية بالاستقلال، بل ورثناها من الحقبة الاستعمارية، حين صُممت الأنظمة المائية لخدمة أهداف السيطرة والاستخراج، لا لإحياء النظم البيئية.

الهندسة الهيدرولوجية البريطانية أعادت تشكيل أنهار بأكملها، وحوّلت الأراضي إلى أدوات للإيرادات الإمبريالية، عبر قنوات ري عملاقة، وأنظمة زراعية نقدية، ومشاريع لاحتكار الأراضي. هذه السياسات همّشت المجتمعات المحلية وقطعت صلاتها التاريخية بالأرض.

بعد الاستقلال، تبنت الدولة الباكستانية هذه الأنظمة دون مراجعة جوهرية، ما أدى إلى تهميش تقنيات محلية كانت تمثل حلولاً تكيفية مستدامة، مثل نظام "الكاريز" في بلوشستان، و"الجوهاد" في هضبة بوطهار، وأساليب حصاد مياه الأمطار لدى البدو الرحّل في السند.

فجوات الحوكمة المعاصرة

إلى جانب الإرث الاستعماري، تواجه باكستان اليوم أزمة في بنية الحوكمة المناخية، حيث تتسم المؤسسات بالتجزؤ، وضعف التنسيق بين الوزارات والأقاليم، وغياب آليات إلزامية تربط السياسات بالتمويل والتنفيذ الفعلي.

كما أن أنظمة البيانات المناخية والمائية تعاني من الانفصال، إذ تفتقر البلاد إلى نظم مراقبة مائية متكاملة وإنذارات مبكرة فعالة، ما يترك المجتمعات دون معلومات إنقاذية، ويقيّد قدرة المخططين على بناء خطط استجابة مرنة.

فجوة التمويل المناخي

رغم وضوح المخاطر ووجود استراتيجيات وطنية، مثل "استراتيجية الحفاظ على المياه 2023–2027"، فإن تمويل الحلول المستندة إلى الطبيعة والمبادرات المحلية التكيفية يظل محدوداً للغاية. وبدون آليات لتعبئة الموارد وصرفها بشفافية، تبقى الخطط حبراً على ورق.

الحرية البيئية كمعيار للاستقلال

إذا كان للاستقلال معنى اليوم، فهو أن يشمل السيادة البيئية والعدالة المناخية. الحرية الحقيقية تعني أن يتمكن المزارع من زراعة أرضه دون خوف من الجفاف، وأن تعيد العائلات بناء منازلها دون أن تجرفها المياه مجدداً، وأن ترث الأجيال القادمة أراضي نابضة بالحياة، لا أطلالاً مغمورة أو أراضٍ متصحرة.

تحقيق هذا المستقبل يتطلب ما يسميه الكاتب "ممكّنات النظام": أشخاص ومؤسسات يعملون على ربط الطبيعة بالإنسان والسياسة، مع تقليص عوامل الضعف، مثل سوء التخطيط العمراني، وإزالة الغابات، وسوء إدارة المياه.

نماذج واعدة

تُظهر جهود الصندوق العالمي للطبيعة في باكستان (WWF-Pakistan) أن الحلول ممكنة:

  • استعادة غابات المانغروف في المصبات الساحلية، لحماية السواحل من العواصف وخلق فرص عمل.

  • مشروع "إعادة شحن باكستان" الذي يحوّل السهول الفيضية إلى أصول بيئية بدلاً من كونها مناطق خطر.

  • مشروع WRAP الذي يخطط لاستعادة الأراضي الرطبة والمناطق النهرية لتقليل الفيضانات وإعادة تغذية المياه الجوفية.

تحرير لم يكتمل

الاستقلال ليس حدثاً ماضياً، بل مسؤولية مستمرة. العدالة المناخية هي جبهة التحرر التالية. فإذا بقيت الهياكل الاستعمارية بلا تحدٍ، واستمرت أنظمة الحكم في ضعفها، وتخلفت البيانات عن تلبية احتياجات الفئات الأكثر عرضة للخطر، وتجاوز التمويل المناخي المستحقين، فإن تحررنا سيظل منقوصاً.

إن الأرض تتذكر، وما نبنيه اليوم – من سياسات وشراكات ورعاية – سيكون إرثنا الحقيقي. فلنجعل باكستان مرادفاً للمرونة والإنصاف، لا الهشاشة والفيضانات.

تعليقات الزوار