المقدمة:
في الحروب الحديثة، لم تعد الأسلحة النووية أو الصواريخ الباليستية وحدها من يحسم المعارك. لقد برز "سلاح الطاقة" بوصفه العامل الخفي والحاسم، الذي يُستخدم كسلاح جيوسياسي صامت لكنه فعّال. ففي ظل الأزمات الدولية المتصاعدة، من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، ومن بحر الصين إلى الخليج، أصبحت السيطرة على مصادر الطاقة وتوجيه تدفقاتها، وسيلة للإخضاع أو للمقاومة، بل هي "الرصاصة الأخيرة" التي قد تُطلق بعد أن تُستنزف كل الوسائل الأخرى.
وأصبح يُستخدم بصمت وبذكاء كأداة ردع وابتزاز ومقايضة، بل "الرصاصة الأخيرة" التي قد تُطلق بعد استنفاد الوسائل الأخرى.
وقد أشار مركز ستراتفور الأميركي إلى أن “القرن الحادي والعشرين سيكون قرن الطاقة كما كان القرن العشرون قرن الصناعة”، حيث لم تعد الطاقة مجرد محرك للاقتصاد، بل أداة نفوذ وصراع. في ظل تصاعد الصراعات العالمية وتعقيد العلاقات الدولية، أصبح "سلاح الطاقة" أحد أهم أدوات القوة الجيوسياسية.
وتحوّل من مجرد مورد اقتصادي إلى وسيلة ضغط، وردع، وتأثير، بل صار يُوصف بـ"الرصاصة الأخيرة في الحرب". ورغم امتلاك العراق لاحتياطات هائلة من النفط والغاز، إلا أن ضعف البنية الاستراتيجية وسوء الإدارة جعلاه غير قادر على استثمار هذه القوة بشكل فعّال.
رغم أن العراق يعدّ من أكبر منتجي النفط في العالم، ويملك احتياطيًا يقدّر بأكثر من 145 مليار برميل من النفط، ويمتلك موقعًا جيوسياسيًا محوريًا يربط الخليج العربي بتركيا وإيران وسوريا، إلا أنه حتى اليوم لم يستثمر هذه القوة الجيوطاقوية كأداة استراتيجية في السياسة الخارجية أو حتى الداخلية.
الواقع الجيو طاقوي الحالي
• إنتاج النفط: نحو 3.3 – 3.5 مليون برميل يوميًا (OPEC, 2024)
• نسبة التصدير: أكثر من 90% من النفط العراقي يُصدّر خامًا دون تكرير
• الموارد النفطية تمثل: أكثر من 95% من واردات الدولة
• غياب البنى التحتية: العراق يفتقر إلى مصافي حديثة، وموانئ تصدير متطورة، وأنابيب تربطه بالجوار (باستثناء خط جيهان التركي الذي عُلّق لفترات طويلة).
التحديات البنيوية التي تعرقل تحويل الطاقة إلى "سلاح"
1. غياب الاستراتيجية الطاقوية الوطنية: لا توجد حتى اليوم رؤية عراقية موحدة لاستخدام موارد الطاقة ضمن مشروع وطني شامل للأمن القومي.
2. الاقتصاد الريعي وفقدان الإرادة الإنتاجية: العراق يعتمد على تصدير النفط الخام فقط دون تنمية للقطاعات غير النفطية أو الصناعات المرتبطة بالطاقة، ما يجعله رهينة لتقلبات السوق.
3. الفساد البنيوي: وفق تقرير هيئة النزاهة العراقية (2023)، يُهدر سنويًا ما يعادل 10–15% من عائدات النفط عبر شبكات فساد في العقود والجباية.
4. الاحتراق الغازي: العراق يحرق أكثر من 50% من الغاز المصاحب لاستخراج النفط، رغم حاجته الشديدة له لإنتاج الكهرباء (البنك الدولي، 2023).
5. الاعتماد على الغاز الإيراني: العراق يستورد من إيران نحو 40% من حاجته من الغاز لتوليد الكهرباء، ما يجعله في موقف تفاوضي ضعيف ويُعرّض أمنه الطاقوي للخطر عند توقف الضخ بسبب العقوبات أو الخلافات السياسية.
مفهوم "سلاح الطاقة"
سلاح الطاقة هو الاستخدام الاستراتيجي للموارد الطاقوية (النفط، الغاز، الكهرباء، والممرات التجارية المرتبطة بها) كأداة للضغط السياسي أو الاقتصادي على الخصوم أو الحلفاء.
وقد ظهر هذا المفهوم بوضوح منذ حرب أكتوبر 1973 عندما استخدم العرب سلاح النفط للضغط على الغرب، لكنه عاد اليوم بحلّة أكثر تعقيدًا وذكاءً. يقول هنري كيسنجر:
"من يملك الطاقة، يملك القرار... ومن يسيطر على تدفقها، يتحكم بمصير الأمم." قال هنري كيسنجر في مقابلة مع The Atlantic (2014):
من يسيطر على تدفقات الطاقة، يمكنه أن يُغيّر الجغرافيا السياسية دون إطلاق رصاصة واحدة."
لماذا هو "الرصاصة الأخيرة"؟
لأن الدول غالبًا ما تحتفظ بهذا السلاح إلى اللحظة التي تصبح فيها كل أدوات الضغط الأخرى غير فعّالة أو مكلفة جدًا. فتستخدمه حين لا تملك خيارات بديلة، أو عندما تريد أن تحقّق أقصى تأثير بأدنى تكلفة.
أمثلة واقعية:
1. روسيا وأوروبا (2022–2023): قطعت موسكو إمدادات الغاز عن دول الاتحاد الأوروبي في ظل حرب أوكرانيا، مما أدى إلى أزمة طاقة خانقة وشتاء قاسٍ في أوروبا.
2. انخفض تصدير الغاز الروسي إلى أوروبا بنسبة 80% في عام واحد (وكالة بلومبرغ، 2023(.
3. إيران وأميركا: العقوبات الأميركية على صادرات النفط الإيراني خفضت الإنتاج من 3.8 ملايين برميل يوميًا إلى أقل من 2.5 مليون في فترات العقوبات القصوى (EIA، 2022). لكن طهران ردّت بتهديد الملاحة في مضيق هرمز الذي يمر عبره أكثر من 20% من تجارة النفط العالمية.
4. الصين وأستراليا: في 2021، استخدمت الصين الحظر على واردات الفحم والغاز الأسترالي كورقة ضغط بعد خلافات سياسية، مما أثر على أسواق الطاقة الآسيوية.
5. ثالثًا: أدوات "سلاح الطاقة"

مستقبل سلاح الطاقة
رغم التوجه العالمي نحو التحول للطاقة النظيفة، فإن النفط والغاز سيظلان حتى عام 2040 في صلب الاستهلاك العالمي للطاقة، وفقًا لوكالة الطاقة الدولية.
توقعات استراتيجية:
• معهد بروكينغز (2023): الطاقة ستظل أحد أهم أدوات الصراع الجيوسياسي حتى عام 2050، خصوصًا في ظل التنافس الأميركي-الصيني على الموارد في إفريقيا وآسيا.
• صندوق النقد الدولي: أزمات الطاقة ستتكرر كل 3-5 سنوات بسبب عدم استقرار سلاسل الإمداد واحتكار بعض الدول للإنتاج.
• مجلس العلاقات الخارجية الأميركي (CFR): هناك انتقال من سلاح الطاقة الأحفورية إلى "سلاح المعادن النادرة" مع تطور الصناعات الخضراء.
المخاطر والتحديات
• الارتداد الاقتصادي: مثلما حدث في روسيا، فإن استخدام سلاح الطاقة قد يؤدي لعقوبات أو عزلة دولية.
• التسارع في الطاقة البديلة: وهو ما قد يقلل من أهمية النفط والغاز تدريجيًا.
• ضعف البنية التحتية: في بعض الدول المنتجة (مثل العراق وليبيا) يجعل من التهديدات أقل فاعلية.
العراق وسلاح الطاقة
العراق يمتلك إمكانات هائلة تجعل منه لاعبًا محوريًا في خريطة الطاقة العالمية، لكنه لا يستخدمها ضمن استراتيجية وطنية واضحة. بل إن غياب "العقل الطاقوي الاستراتيجي" سمح بتحول هذا المورد من قوة إلى نقطة ضعف، تستغلها التدخلات الإقليمية والدولية. المرجعية الدينية في النجف الأشرف أكدت في أكثر من مناسبة على:
"ضرورة استخدام موارد البلاد لخدمة الشعب لا لنهبها أو تركها أداة لصراعات الخارج."
ما الذي يحتاجه العراق فعلياً؟
لكي يحوّل العراق الطاقة إلى "سلاح جيوسياسي إيجابي"، لا بد من تحقيق تحوّل شامل في فلسفة إدارة هذا المورد، عبر المحاور التالية:
1. صياغة عقيدة طاقوية وطنية
يجب على العراق صياغة "عقيدة طاقوية" ضمن استراتيجيته للأمن القومي، تُحدد الأهداف التالية:
• تحقيق الأمن الطاقوي الداخلي (الاكتفاء في الكهرباء والوقود)
• بناء تحالفات طاقوية إقليمية (مع تركيا، الأردن، دول الخليج)
• تنويع أسواق التصدير (التوسع شرقًا نحو آسيا)
2. استثمار الغاز الطبيعي بدل حرقه
• العراق يحرق يوميًا ما يعادل 500 مليون دولار من الغاز بسبب غياب البنية التحتية.
• الاستثمار في مشاريع تجميع ومعالجة الغاز المصاحب يمكن أن يوفّر سنويًا أكثر من 6 مليارات دولار ويقلّل الاعتماد على الاستيراد.
3. تنويع أدوات التصدير
• تطوير مشروع البصرة-العقبة لنقل النفط إلى البحر الأحمر
• بناء مرافئ تصدير بديلة في الجنوب (الفاو الكبير(
4. إنشاء مجلس طاقة وطني مستقل
• يُشرف على جميع السياسات الطاقوية
• يضم خبراء مستقلين، ويخضع لمساءلة برلمانية
• ينسّق بين وزارات النفط، الكهرباء، التخطيط، والخارجية
5. إدماج الطاقة في السياسة الخارجية
• الطاقة يجب ألا تكون فقط مورداً مالياً، بل أداة تأثير دبلوماسي.
مثال: يمكن للعراق أن يُقدّم الغاز للكويت مقابل استثمارات، أو النفط للأردن مقابل شراكات أمنية.
6. التحول نحو الطاقة المتجددة
• الشمس والرياح في العراق من أعلى المعدلات عالميًا، لكن نسبة مساهمة الطاقة المتجددة لا تتجاوز 1%. الاعتماد التدريجي على مصادر نظيفة سيوفر فائضاً من النفط والغاز للتصدير الاستراتيجي.
نظرة إقليمية: العراق بين جيرانه والهند الصاعدة
بينما يمتلك العراق موارد طاقوية هائلة، نجد أن جيرانه يحسنون توظيف الطاقة في استراتيجياتهم الاقتصادية والسياسية. فإيران، رغم العقوبات، تحتفظ بأكبر احتياطي غاز عالمي وتستخدمه كورقة ضغط إقليمية، في حين تقود السعودية عبر "أرامكو" و"رؤية 2030" تحولًا استراتيجيًا نحو تنويع الاقتصاد وتوسيع نفوذ الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر. تركيا، رغم اعتمادها على الاستيراد، تحولت إلى مركز عبور للطاقة الإقليمية عبر مشاريع ضخمة مع روسيا وأذربيجان، فيما تسعى الأردن والكويت لتعظيم القيمة المضافة للطاقة رغم محدودية الموارد أو صغر السوق.
في المقابل، يبرز الاقتصاد الهندي كقوة عالمية ناشئة تعتمد بشدة على استيراد الطاقة، حيث تُعد ثالث أكبر مستهلك للطاقة عالميًا، وتربطها بالعراق علاقة استراتيجية كونها من أكبر مستوردي نفطه. هذا التحول العالمي نحو أسواق آسيا النامية يفرض على العراق أن لا يكتفي بتصدير الخام، بل أن يطوّر أدواته، ويحجز موقعه كمحور إقليمي فاعل في معادلة الطاقة.
في المقابل، يبرز الاقتصاد الهندي كقوة عالمية ناشئة تعتمد بشدة على استيراد الطاقة، حيث تُعد ثالث أكبر مستهلك للطاقة عالميًا، وتربطها بالعراق علاقة استراتيجية كونها من أكبر مستوردي نفطه. هذا التحول العالمي نحو أسواق آسيا النامية يفرض على العراق أن لا يكتفي بتصدير الخام، بل أن يطوّر أدواته، ويحجز موقعه كمحور إقليمي فاعل في معادلة الطاقة.
الخاتمة
في عالم تتصاعد فيه وتيرة الصراعات، وتتشابك فيه المصالح، يصبح "سلاح الطاقة" هو الرصاصة الأخيرة التي قد تغيّر مسار حرب، أو تحسم مصير تفاوض. فمن يحسن استخدامه، لا يحتاج بالضرورة إلى إطلاق النار... بل قد يكفيه فقط أن يُهدد بإطفاء المصباح. سلاح الطاقة هو بالفعل "الرصاصة الأخيرة في الحرب"، لكنه أيضًا قد يكون "الرصاصة الأولى في معركة الاستقلال الاقتصادي والسياسي". من يُحسن استخدام هذا السلاح – بذكاء، وتوقيت، وشبكات تحالف – يمكنه أن يُغيّر قواعد اللعبة الدولية. أما من يُفرّط فيه، فسيفقد صوته، قبل أن يُطلق رصاصته.وكما قال خبير الطاقة دانييل يرجين: الحروب تُخاض بالنفط كما بالسلاح، لكن النصر يُحسم بالقدرة على التحكم بهما معًا."
المصادر:
1. وكالة الطاقة الدولية (IEA), World Energy Outlook, 2023
2. معهد بروكينغز – Brookings Institute, Energy and Geopolitics Report, 2023
3. وكالة بلومبرغ – Bloomberg, Russian Gas Crisis Report, 2023
4. تقرير EIA الأميركي، صادرات النفط الإيراني، 2022
5. هنري كيسنجر، مقابلة The Atlantic، 2014
6. مركز ستراتفور – Stratfor, Energy Forecast, 2021
7. صندوق النقد الدولي – IMF, Energy Risks, 2022
8. مجلس العلاقات الخارجية CFR, 2024
9. بيانات أوبك، تقرير نيسان 2024
10. المرجعية الدينية في النجف، خطبة الجمعة، 2018
بقلم أ.م.د فادي حسن جابر
تعليقات الزوار