كيف تهدد سياسات ترامب مستقبل الابتكار

تشير السياسات التقييدية في منح التأشيرات، والخطابات العدائية تجاه المؤسسات الأكاديمية، والمقترحات لخفض ميزانيات الوكالات العلمية، إلى بداية تراجع الولايات المتحدة عن موقعها الريادي في العالم العلمي.

لم تكن الهيمنة الأمريكية في مجال العلوم والابتكار أمرًا حتميًا. بل كانت ثمرة استراتيجية متعمدة قامت على الانفتاح، والمؤسسات الشاملة، والاستثمار المستقبلي في التعليم والبحث العلمي. هذا التفوق، الذي شُيّد على مدى قرن، بات يتآكل بهدوء – لكنه يهدد بسرعة أسس القيادة الأمريكية في العالم.

وفي خضم الخطاب الوطني المنقسم اليوم، تتركز العناوين على الرسوم الجمركية والهجرة والحروب الثقافية. لكن خلف هذه الضوضاء يكمن اتجاه أكثر خطورة: التفكيك المنهجي للمنظومة العلمية والبحثية الأمريكية. وعلى عكس انهيار سوق الأسهم أو خطأ عسكري، فإن هذا التراجع أقل وضوحًا، ولكن كلفته طويلة الأمد قد تكون أكبر بكثير.

كيف أصبحت أمريكا قائدة في العلم؟

على مدى معظم التاريخ الحديث، لم تكن الولايات المتحدة رائدة في العلوم. ففي أوائل القرن العشرين، كانت ألمانيا تتصدر مجالات الكيمياء والفيزياء والهندسة، بينما كانت الجامعات البريطانية تحدد جدول الأبحاث العالمي. بين عامي 1901 و1930، حصلت ألمانيا على نحو ثلث جوائز نوبل في العلوم، بينما حصلت الولايات المتحدة على 6% فقط.

ثلاثة تطورات رئيسية غيّرت هذا الواقع:

نزوح العقول من أوروبا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، حيث هرب العلماء اليهود وغيرهم من المضطهدين من الفاشية ومعاداة السامية، ليعززوا الأكاديميا الأمريكية ويقودوا ثورات علمية من ميكانيكا الكم إلى الطاقة النووية. وعلى الرغم من أن اليهود شكلوا أقل من 1% من سكان ألمانيا، إلا أنهم حصلوا على أكثر من 25% من جوائز نوبل العلمية فيها.

دمار البنية التحتية الأوروبية نتيجة الحرب العالمية الثانية، فقد خسرت الاتحاد السوفيتي أكثر من 24 مليون شخص، وكانت بريطانيا وفرنسا وألمانيا في حالة خراب، بينما خرجت أمريكا من الحرب باقتصادها ومؤسساتها ومراكز الابتكار سليمة ومتصاعدة.

تبني الولايات المتحدة للعلم كأولوية وطنية بعد الحرب. أُنشئت "المؤسسة الوطنية للعلوم" (NSF) في 1950، وأدى إطلاق القمر الصناعي السوفيتي "سبوتنيك" عام 1957 إلى تسريع جهود البحث الأمريكية. وبحلول أوائل الستينيات، كانت أمريكا تنفق على البحث والتطوير أكثر من 2.5% من ناتجها المحلي الإجمالي – وهي نسبة أعلى من أي دولة أخرى.

هذه المنظومة المفتوحة واللامركزية أصبحت المحرك العلمي الأكبر في العالم، وأنتجت اختراعات مثل لقاح شلل الأطفال، الإنترنت، نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، لقاحات mRNA، والذكاء الاصطناعي. كما أطلقت صناعات كبرى مثل الحوسبة، الطيران، والتكنولوجيا الحيوية.

تراجع تحت حكم ترامب

اليوم، بدأت أمريكا في تفكيك الدعائم التي أقامتها. فقد أطلقت إدارة ترامب سياسات تأشيرات مقيدة، وهجمات خطابية على الجامعات، واقتراحات بخفض ميزانيات مؤسسات مثل المعاهد الوطنية للصحة (NIH) وNSF. وعلى الرغم من التراجع عن بعض هذه الإجراءات، إلا أن آثارها السلبية لا تزال محسوسة.

انخفضت موافقات تأشيرة F-1 للطلاب الصينيين، كما أصبح الطلاب الدوليون أقل ميلاً للتقديم على برامج الدراسات العليا في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM) في الولايات المتحدة، مفضلين دولًا أخرى.

الأرقام تعكس ذلك بوضوح:

ووفقاً لمؤشر Nature Index، أصبحت الصين تتفوق على أمريكا في عدد المنشورات العلمية في المجلات الرائدة.

في براءات الاختراع، قدمت الصين 25.6% من الطلبات العالمية العام الماضي، مقابل 19.7% للولايات المتحدة.

ارتفع عدد الجامعات الصينية ضمن تصنيف شنغهاي لأفضل 500 جامعة عالمية من 34 في 2010 إلى 103 في العام الماضي، بينما تراجع عدد الجامعات الأمريكية من 154 إلى 114.

بينما تتقدم دول أخرى

تعتمد أمريكا بشكل كبير على المهاجرين في مجالات العلوم، حيث شكّلوا 23% من القوة العاملة في STEM عام 2019، و26% من وظائف الحوسبة والرياضيات، و35% من الفائزين بجوائز نوبل في العلوم من الولايات المتحدة كانوا من المهاجرين.

في المقابل، تتحرك دول مثل كندا، أستراليا، بريطانيا، ودول أوروبية أخرى بسرعة لاستقطاب الباحثين، عبر منح تأشيرات سريعة، وتمويلات مضمونة، ومسارات واضحة للإقامة الدائمة. أما الصين، التي كانت في السابق تصدر المواهب، فقد باتت تستعيد علماءها ببرامج مثل "خطة الألف موهبة"، حيث توفر لهم مختبرات حديثة وتمويلاً سخياً.

أكثر من 75% من العلماء الأمريكيين الذين شاركوا في استطلاع أجرته Nature قالوا إنهم يفكرون في مغادرة البلاد، مشيرين إلى حالة عدم اليقين السياسي وفرص العمل الأفضل في الخارج.

الخطر لا يقتصر على الهيبة الأكاديمية

ما تخسره أمريكا ليس فقط سمعتها العلمية، بل الأساس الذي تُبنى عليه الصناعات المستقبلية. من الحوسبة الكمومية والهندسة الحيوية إلى الطاقة النظيفة والذكاء الاصطناعي، تبدأ اختراعات الغد بأبحاث اليوم.

الأمن القومي على المحك أيضاً. ففي الحرب الباردة، كانت القوة العلمية مرادفاً للقوة الاستراتيجية. ولا يزال الأمر كذلك، لكن المنافسين اليوم أكثر قدرة، والتحديات أكثر تعقيدًا. لن تظهر ثورة علمية جديدة مثل "مشروع مانهاتن" أو ابتكارات وكالة DARPA فجأة من فراغ، بل تحتاج إلى بيئة خصبة – وهي البيئة التي بدأت بالتآكل.

خيار أمريكا المصيري

نادراً ما تسقط القوى العظمى فجأة. بل تتآكل عبر سلسلة من القرارات الصغيرة التي تُتخذ بدافع الخوف بدل الثقة، وبالانحياز الإيديولوجي بدل الواقعية، وبالركون إلى الماضي بدل الطموح للمستقبل.

لا تزال الولايات المتحدة قائدة عالمية في العلوم، ولكن القيادة ليست جائزة تُحتفظ بها إلى الأبد، بل مسؤولية تُكتسب وتجدد باستمرار. وأمام أمريكا خيار مفصلي: إما أن تعيد تأكيد التزاماتها بالانفتاح والاستثمار والقوة المؤسسية التي بنت قرن الابتكار، أو تستمر في التراجع – تأشيرة بعد أخرى، وخفض ميزانية تلو الآخر، وسياسة خاطئة بعد سياسة خاطئة. وسيحكم علينا المستقبل، لا بما قدناه في الماضي، بل بما اخترنا الحفاظ عليه.

منقول عن صحيفة South China Morning Post

تعليقات الزوار