مواجهة تحديات النزاهة في جنوب شرق آسيا

رغم التقدّم في معايير الامتثال، لا تزال المؤسسات في جنوب شرق آسيا تواجه مخاطر أخلاقية كبيرة تهدد استقرار أعمالها. ومع استمرار نمو اقتصادات المنطقة بوتيرة متسارعة، تزداد الحاجة إلى بنية قوية للنزاهة المؤسسية لضمان استدامة النمو وثقة الأطراف المعنية.

ويصعّب تنوع الأنظمة التنظيمية والفروقات الثقافية وتفاوت مستويات تطبيق القوانين من المشهد أمام الشركات، ما يفرض عليها الالتزام بالتشريعات إلى جانب ترسيخ ثقافة أخلاقية شاملة داخل المؤسسة.

تقرير "النزاهة العالمية 2024" الصادر عن "إرنست ويونغ" (EY)، والذي استند إلى آراء أكثر من 5500 من أعضاء مجالس الإدارة والمديرين والموظفين حول العالم، يُسلط الضوء على هذه التحديات المتزايدة، ويشكل مرجعًا مهمًا لتعزيز الأطر الأخلاقية للمؤسسات في المنطقة.

فجوة بين الأقوال والأفعال: ثقافة النزاهة قيد الاختبار

وفقًا للتقرير، أشار 71% من المشاركين من جنوب شرق آسيا إلى تحسن معايير النزاهة في مؤسساتهم، وهي نسبة تفوق المعدل العالمي البالغ 49%.

ومع ذلك، فإن 44% من المستجيبين يرون أن السلوك غير الأخلاقي يُتغاضى عنه على مستوى القيادة العليا، مقابل 31% عالميًا. هذا يُبرز وجود فجوة خطيرة بين ما يُقال وما يُمارَس فعليًا.

المؤسسات التي تستثمر في بناء ثقافة نزاهة قوية ستجني ثقة المستثمرين والعملاء، بينما تواجه المؤسسات ذات الحوكمة الضعيفة مخاطر متزايدة من حيث السمعة والعقوبات التنظيمية.

حماية المُبلّغين: ثغرة حرجة في أنظمة النزاهة

يُظهر التقرير تأخر المنطقة في توفير الحماية الكافية للمُبلّغين عن المخالفات؛ حيث أشار نحو ثلثي المشاركين إلى أنهم يشعرون بالضغط لعدم الإبلاغ عن سوء السلوك، فيما شكك 44% منهم في جدوى تقديم البلاغات من الأساس.

ويواجه حتى كبار المديرين هذه الضغوط، ما يُبرز الحاجة الماسة إلى إنشاء قنوات إبلاغ سرية وآمنة تحمي المُبلّغين من الانتقام وتُشجّع على كشف التجاوزات مبكرًا.

وفي الفلبين، لوحظ اهتمام متزايد من بعض الشركات لتعزيز برامج الإبلاغ، بما في ذلك التوجه نحو الاستعانة بجهات خارجية متخصصة لإدارة قنوات البلاغات بشكل احترافي ومستقل.

مخاطر الأطراف الثالثة: الثغرة الأخطر

تشكل العلاقات مع الأطراف الخارجية مصدرًا رئيسيًا للمخاطر، حيث تُنسب 84% من حوادث النزاهة في جنوب شرق آسيا إلى شركاء خارجيين. ويفيد التقرير بأن 20% من المشاركين قد يتجاهلون سلوكًا غير أخلاقي إذا طُلب منهم من قبل رؤسائهم، و21% قد يفعلون ذلك إذا كان ذلك يعود عليهم بمنفعة مهنية أو مالية.

وهذه الأرقام تؤكد ضرورة مراجعة حوكمة الأطراف الثالثة وإجراء تدقيقات صارمة تضمن التزام الشركاء الخارجيين بنفس المعايير الأخلاقية المفروضة على الموظفين الداخليين.

الذكاء الاصطناعي: تطور أخلاقي غير مكتمل

مع ازدياد استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، الذي بلغ 37% من المؤسسات في المنطقة، تنشأ تحديات جديدة تتعلق بالخصوصية والانحياز الخوارزمي. ورغم انتشار هذه التكنولوجيا، إلا أن معظم الهياكل الحاكمة لا تزال غير مؤهلة لمعالجة هذه التحديات الأخلاقية.

يُعد وضع إطار حوكمة واضح للذكاء الاصطناعي أمرًا حاسمًا لتفادي الانزلاقات الأخلاقية، وضمان التعامل العادل والمسؤول مع البيانات والخوارزميات.

من الالتزام القانوني إلى الاستدامة الحقيقية: دمج مبادئ ESG

رغم تزايد اهتمام المؤسسات بمبادئ البيئة والمجتمع والحوكمة (ESG)، إلا أن معظم المبادرات لا تزال مدفوعة بالضغوط التنظيمية وليس بالإيمان الداخلي بالتغيير. حيث أشار 64% من المشاركين إلى أن استراتيجيات ESG لديهم تأتي استجابة لمتطلبات الجهات الرقابية.

لتحقيق تحول حقيقي ومستدام، يجب أن تصبح هذه المبادئ جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية العمل، لا مجرد التزام قانوني، مع ربطها بالعوائد الاقتصادية وثقة المستثمرين.

توصيات لكبار المسؤولين التنفيذيين

لضمان بنية نزاهة متماسكة، يُوصى المؤسسات في جنوب شرق آسيا بما يلي:

مساءلة القيادة العليا: يجب أن تكون القيادة نموذجًا يُحتذى به في السلوك الأخلاقي، مع تطبيق إجراءات صارمة ضد أي انتهاكات، بغض النظر عن مستوى المسؤول.

حوكمة الأطراف الثالثة: تعزيز الرقابة من خلال عمليات تدقيق شاملة، والتأكد من امتثال الشركاء الخارجيين لنفس معايير السلوك الداخلي.

أنظمة إبلاغ فعالة: يجب توفير قنوات آمنة وسرية للإبلاغ، مقرونة بآليات تحقيق نزيهة وشفافة لبناء الثقة الداخلية.

إدارة أخلاقيات الذكاء الاصطناعي: تطوير أطر حوكمة واضحة للتعامل مع قضايا الخصوصية والتحيّز، بما يضمن الاستخدام المسؤول لهذه التكنولوجيا.

دمج ESG في صميم الاستراتيجية: الانتقال من نهج الامتثال إلى نهج المبادرة، مع ربط قيم الاستدامة بأهداف النمو الطويل الأجل.

النزاهة أساس الصمود المؤسسي

إن التحديات الأخلاقية المتزايدة في جنوب شرق آسيا تفرض على المؤسسات أن تتبنى نهجًا شاملاً قائمًا على الشفافية والمساءلة. المؤسسات التي تبادر إلى معالجة هذه التحديات ستكون الأفضل استعدادًا للنمو، وستُمثل نموذجًا يُحتذى به في السوق الإقليمي والعالمي.

الاستثمار في النزاهة لا يحمي المؤسسات من المخاطر القانونية والسمعية فحسب، بل يُسهم أيضًا في بناء بيئة عمل أكثر عدالة واستدامة لجميع الأطراف المعنية.

هذا التقرير لأغراض إعلامية عامة ولا يُعدّ بديلاً عن الاستشارة المهنية. الآراء الواردة فيه تعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة موقف شركة SGV & Co.

رودريك م. فيغا

رئيس خدمات الطب الشرعي والنزاهة – SGV & Co.

 

تعليقات الزوار