تسببت الحروب المتفجرة منذ هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، إلى جانب الحرب الأهلية السورية المستمرة منذ 14 عاماً، في تدمير مساحات شاسعة من المشرق العربي.
تشير التقديرات إلى أن تكاليف إعادة الإعمار ستكون فلكية. فبحسب تقديرات أواخر عام 2024، بلغ إجمالي الأضرار الاقتصادية الناتجة عن الحرب الأهلية السورية حوالي 923 مليار دولار، فيما تتراوح كلفة إعادة الإعمار بين 240 و400 مليار دولار. ويعيش تسعة من كل عشرة سوريين في فقر، ويواجهون انعداماً حاداً في الأمن الغذائي.
وأظهرت دراسة للأضرار والاحتياجات أجرتها الأمم المتحدة وشركاؤها أن 53.2 مليار دولار مطلوبة لإعادة إعمار غزة والضفة الغربية خلال العقد القادم، في حين قدّرت البنك الدولي تكلفة إعادة إعمار لبنان بـ 11 مليار دولار.
وفي أفضل الأحوال، تتطلب مواجهة هذه التحديات تمويلاً مستداماً من المانحين الدوليين. إلا أن التحولات الجذرية في النظام العالمي الليبرالي وقطاع التنمية، تجعل من هذه اللحظة وقتاً غير اعتيادي يتطلب تفكيراً جديداً بشأن كيفية تمويل إعادة إعمار المشرق.
نهاية عصر المانحين التقليديين
يواجه نموذج التعاون الإنمائي الكلاسيكي القائم على المساعدات من الدول الغنية مستقبلاً غامضاً، على أقل تقدير. فقد قامت حكومات أوروبية يمينية وشعبوية، وحتى حزب العمال الحاكم في المملكة المتحدة، بتقليص ميزانيات المساعدات الخارجية بشكل غير مسبوق، في ظل تفاقم العجز المالي وأزمات غلاء المعيشة، ما دفع الحكومات إلى التركيز على الاحتياجات المحلية على حساب الشؤون الخارجية.
أما سياسة "أمريكا أولاً" في عهد الإدارة الثانية لترامب، فهي تعيد تشكيل النظام العالمي والعلاقات عبر الأطلسي. وتراجع دعم ترامب لأوكرانيا وحلف الناتو دفع أوروبا، وللمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، لتحمل مسؤولية أكبر عن أمنها.
واقترحت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين خطة "إعادة تسليح أوروبا" لتعبئة 800 مليار يورو (865 مليار دولار) خلال أربع سنوات لتعزيز الصناعات الدفاعية الأوروبية. هذا التحول الجيوسياسي يعني أن المانحين الأوروبيين باتوا يعطون الأولوية للأمن الداخلي على حساب الإنفاق الاجتماعي والتعاون الإنمائي الخارجي.
ووفقاً للأمم المتحدة، أنفقت إدارة بايدن 72 مليار دولار على المساعدات الخارجية في عام 2023، ما يعكس استمرار مكانة أمريكا كأكبر مانح دولي. ولكن في ظل عودة ترامب، تم تفكيك الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، ما انعكس سلباً على المجتمعات الهشة في سوريا ولبنان وغزة. وبينما قد تعيد بعض الأحكام القضائية والسياسات الجديدة بعض التمويل، إلا أن بعض الأضرار قد تكون دائمة أو يصعب إصلاحها.
نحو رواية جديدة ونماذج بديلة
في ظل التشكيك في شرعية وكفاءة نموذج المساعدات القائم على نظام عالمي مختلف جذرياً، أصبح من الضروري تطوير سردية جديدة وهياكل تمويل بديلة للمساعدات الخارجية.
إحدى الأفكار التي تستحق الدراسة الجادة هي التعاون المحتمل بين البنك الإسلامي للتنمية والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية لإطلاق صندوق إعادة إعمار المشرق (LRF). يمتلك البنك الأوروبي خبرة ناجحة في تمويل جهود إعادة الإعمار في أوروبا الشرقية والوسطى، وقد وسّع ولايته في 2012 لتشمل منطقة المتوسط الجنوبي والشرقي. بينما يتمتع البنك الإسلامي بتاريخ مهني قوي في تمويل مشاريع التعافي والتنمية في 57 دولة عضو.
وصرّح مايكل كوهلر، المدير العام السابق لعمليات الحماية المدنية والمساعدات الإنسانية في الاتحاد الأوروبي، أن هذه الصيغة الجديدة ستجمع القيم الاستراتيجية المضافة من كلا المؤسستين، وستُتيح جمع الأموال من العالم الإسلامي والشرق الأوسط وأوروبا، إلى جانب تحفيز شراكات واسعة بين القطاعين العام والخاص. وبالمقارنة مع تعقيدات إنشاء بنك متخصص لإعادة إعمار المشرق، فإن مشروعاً مشتركاً بين هذين الكيانين الماليين يمكن أن يبدأ بسرعة نسبية.
إعادة الإعمار رهينة الأمن
من الواضح أن جهود إعادة الإعمار الكبرى مرتبطة بإعادة الاستقرار الأمني. وقال كريم بيطار، المحاضر في دراسات الشرق الأوسط بمعهد "ساينس بو" في باريس، إن هناك خطراً متزايداً من تفكك سوريا بسبب تدخلات قوى إقليمية ودولية متعددة. وحتى يتم التوصل إلى نوع من "تفاهم الحد الأدنى" بين هذه القوى، فإن المانحين العرب والأوروبيين لن يضخوا استثمارات جدية في سوريا.
وأشار فؤاد الزاير، المستشار المستقل في التحول في قطاع الطاقة والمسؤول السعودي السابق في "أوبك"، إلى وجود رغبة متزايدة لدى دول الخليج للعودة إلى الاستثمار في لبنان، ولتقديم مساعدات واستثمارات فنية في قطاع الطاقة السوري. ورغم الشكوك حول استعداد حزب الله لنزع سلاحه بالكامل، وهشاشة وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، فإن السعودية ودول الخليج الأخرى أبدت استعداداً لتقديم دعم محدود إذا ما أبدت الحكومة اللبنانية الجديدة التزاماً بالإصلاحات الاقتصادية والمصرفية المطلوبة بشدة.
مصالح مشتركة… وفرصة تاريخية
يمتلك الشرق الأوسط وأوروبا مصلحة مشتركة في استقرار وازدهار المشرق العربي، لمنع تحوّله إلى بؤرة للإرهاب ومصدر لأزمات اللاجئين. إن إنشاء صندوق استراتيجي طويل الأمد بين البنك الإسلامي للتنمية والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار يحمل إمكانات حقيقية لمعالجة احتياجات التعافي غير المسبوقة في المشرق، في ظل تراجع الدعم الغربي للتنمية وتحولات كبرى في النظام العالمي.
بقلم: كاوا حسن
كاوا حسن زميل غير مقيم في برنامج الشرق الأوسط في معهد "ستيمسون"، مؤسس "شروفا ستراتيجيز" للاستشارات في شؤون الشرق الأوسط والعلاقات الأوروبية-الشرق أوسطية، وخبير في شؤون العراق لدى وكالة الاتصالات والمعلومات التابعة لحلف الناتو. شغل سابقاً مناصب تنفيذية في مؤسسات بحثية بارزة، قاد خلالها مبادرات دبلوماسية غير رسمية وبحوث سياساتية حول الوساطة وحل النزاعات.
تعليقات الزوار