En

استشراف ما بعد الزعامات والضوابط (من إدارة التوازنات إلى صراع الشرعية)

محمد جاسم الجبوري _ مساعد رئيس مؤسسة غداً لإدارة المخاطر

في كل مرة يُعلن فيها عن تشكيل حكومة جديدة في العراق، يُخيّل للبعض أن النظام السياسي قد تجاوز لحظة الخطر، فيما تشير الوقائع إلى أن ما يحدث غالباً ليس أكثر من إعادة توزيع مؤقتة للأوزان داخل بنية مأزومة أصلًا. فالحكومة، في السياق العراقي، لا تمثّل ذروة الاستقرار، بقدر ما تمثّل هدنة سياسية تُؤجَّل فيها الصراعات بدل أن تُحل، وتُدار التناقضات تحت ضغط الحاجة إلى التوافق لا تحت منطق الإصلاح.

تعتمد الأحزاب الكبرى على بنى هرمية شديدة التمركز، حيث تُختزل الشرعية في شخص الزعيم، ويُختصر القرار في إرادته، وتُدار الخلافات الداخلية بميزان الولاء لا بآليات مؤسساتية واضحة. هذا النمط، وإن وفّر قدرة على الضبط في مراحل الصعود، إلا أنه يحمل في داخله أسباب التفكك، لأن الحزب لا يمتلك آلية طبيعية لتجديد قيادته أو إعادة إنتاج شرعيته. ومع تراجع دور الزعيم بفعل الخسارة السياسية أو التقدم في السن، يتحول الحزب من كيان متماسك إلى بنية هشّة تنتظر لحظة الفراغ.

عند تلك اللحظة، لا يحدث الانقسام بدافع الاختلاف الفكري بقدر ما يحدث بدافع البقاء. تبدأ القيادات الثانوية، التي كانت تدور في فلك المركز، بالبحث عن مسارات بديلة تحفظ حضورها وتأثيرها، فتتجه نحو أحزاب في مرحلة الشباب أو مشاريع سياسية ناشئة ، لا لأنها تحمل بالضرورة رؤية مختلفة، بل لأنها تمثّل فرصة جديدة للحياة السياسية. وهنا، لا يكون المشهد انتقالاً ديمقراطياً صحياً ، بل إعادة تدوير للنخب القديمة بأسماء وخطابات جديدة، فيما يبقى الخلل البنيوي قائماً.

في موازاة هذا المشهد الحزبي الهش، ظل وجود المرجعية الدينية العليا، ممثلة بالسيد علي السيستاني (أطال الله بقاءه)، يشكّل كابحاً أخلاقياً غير مكتوب للعملية السياسية. لم تكن المرجعية طرفاً في الحكم، لكنها رسمت سقوفاً عامة حدّت من اندفاع السياسيين نحو أقصى خياراتهم، ومنعت الانزلاق إلى الفوضى الشاملة في لحظات حرجة، وحافظت على مسافة فاصلة بين الفتوى والممارسة السياسية اليومية.

غير أن السياسة لا تُدار على فرضية الدوام. فالحديث عن غياب المرجعية ليس أمنية ولا تهويلاً، بل قراءة لمسار زمني طبيعي لا يمكن تجاهله. وفي حال وقوع هذا الغياب، فإن أثره سيتجاوز البعد الديني إلى عمق المشهد السياسي والاجتماعي، حيث يفقد النظام أحد أهم ضوابطه المعنوية، ويتحرر عدد من الفاعلين من الحرج الأخلاقي الذي كان يكبح خياراتهم أو يؤخر اندفاعهم نحو مواقف أكثر حدّة أو مصلحية.

لن يكون التحول، في هذه الحالة، حدثاً واحداً أو انفجاراً فورياً، بل سلسلة تحولات متراكمة. ستظهر انقسامات أعمق داخل الأحزاب التقليدية، ويتصاعد التنافس داخل البيت الواحد قبل أن يمتد خارجه، فيما تُستدعى الهوية الدينية والاجتماعية إلى قلب الصراع السياسي بصورة أكثر وضوحاً . وفي المقابل، ستجد القوى الشابة نفسها أمام اختبار حقيقي: إما أن تتحول إلى رافعة لتجديد فعلي، أو أن تُستثمر كواجهة جديدة لصراعات قديمة لم تُحل.

العراق، في هذه المرحلة، لا يقف على حافة الانهيار بقدر ما يقف على أرضية متحركة، حيث يتآكل الاستقرار القائم على الأشخاص والرموز، دون أن تُبنى بدائل مؤسساتية قادرة على حمل المرحلة التالية. ومع تراجع الزعامات التاريخية واحتمالات غياب الضوابط الأخلاقية الجامعة، ستنتقل السياسة من إدارة التوازنات إلى صراع على تعريف الشرعية نفسها: من يملك حق التمثيل؟ ومن يحدد الخطوط الحمراء؟ ومن يتحدث باسم المجتمع؟

التحول قادم، سواء أُدير بوعي أو تُرك لعشوائية التفاعلات. والسؤال لم يعد إن كان النظام سيتغير، بل كيف سيُدار هذا التغيير، وبأي كلفة سياسية واجتماعية، ومن سيكون مستعداً لقراءته قبل أن يفرض نفسه بوصفه واقعاً لا يمكن تجاوزه.

تعليقات الزوار