الهدنة التجارية الأمريكية – الصينية من جديد: المخاطر الكامنة وراء اتفاق بوسان
يُعدّ "اتفاق بوسان الإطاري" بين الولايات المتحدة والصين، الذي أُعلن عنه عقب قمة الزعيمين في كوريا الجنوبية، هدنة مؤقتة في صراع تجاري واقتصادي طويل ومضطرب بين القوتين الاقتصاديتين الأكبر في العالم. فالاتفاق يخفف الضغوط المالية والسياسية المباشرة على الجانبين من خلال خفض الرسوم الجمركية وتعليق بعض القيود على الصادرات، لكنه لا يعالج جذور التوتر العميقة التي غذّت سنوات من المواجهة المستمرة.
عملياً، يوفر الاتفاق مساحة تنفس أكثر مما يقدم حلاً حقيقياً؛ إذ تستفيد الصين من استعادة قدر من المرونة والسيطرة على مواردها الاستراتيجية، بينما تكسب الولايات المتحدة راحة سياسية واقتصادية مؤقتة مع اقتراب انتخابات منتصف الولاية عام 2026. ومع احتفاظ الجانبين بحرية تفسير وتنفيذ بنود الاتفاق وفقاً لمصالحهما، يبدو شبه مؤكد أن خلافات جديدة ستنشأ لاحقاً.
من المرجح أن يكون العام المقبل محكوماً بحالة من "الاستقرار المُدار"، حيث يتعاون الطرفان بالقدر الكافي لتجنّب الانهيار، مع استمرار النظر إلى بعضهما كـ منافسين استراتيجيين. الأسواق والشركات ستشهد هدوءاً مؤقتاً، لكنها ستظل متوجسة من موجة تصعيد جديدة، فيما تبقى التنافسات التكنولوجية والسياسية والاستراتيجية على حالها دون مساس.
ما الذي حدث؟
في 30 تشرين الأول/أكتوبر 2025، التقى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الصيني شي جين بينغ في مدينة بوسان الكورية، في محاولة لوقف دوامة جديدة من الرسوم الجمركية والحواجز التجارية التي تصاعدت خلال العام. كلا الزعيمين كان تحت ضغط داخلي كبير: ترامب من جانب المزارعين والصناعيين الأمريكيين المتضررين من الرسوم، وشي من تباطؤ الاقتصاد الصيني وتراجع الصادرات نتيجة القيود الأمريكية المشددة.
تمخض اللقاء عن اتفاق سُمّي "إطار بوسان"، وهو اتفاق لمدة عام واحد يهدف إلى تهدئة التوترات، وتضمن النقاط التالية:
الولايات المتحدة وافقت على خفض الرسوم الجمركية البالغة 20% على الواردات الصينية المتعلقة بمخاوف الفنتانيل إلى 10%، وتعليق زيادة بنسبة 100% كانت مزمعة على السلع الصينية. كما أوقفت واشنطن تحقيقاً في ممارسات الشحن الصينية، وعلّقت لبعض الوقت قيوداً على شركات صينية مدرجة في "قائمة الكيانات الأمريكية" لمدة عام.
الصين، بالمقابل، تعهدت باستئناف شراء فول الصويا والمنتجات الزراعية الأمريكية، ورفع القيود الجديدة على تصدير المعادن النادرة لمدة عام، والتعاون مع الولايات المتحدة في ضبط صادرات مواد تصنيع الفنتانيل. كما وافقت على إعادة فتح النقاش بشأن بيع تطبيق "تيك توك" القسري، وعلى بحث شراء منتجات الطاقة الأمريكية، رغم أن هذه الالتزامات لا تزال غامضة.
الاتفاق مدّد عملياً تجميداً مؤقتاً متبادلاً للرسوم كان سينتهي في تشرين الثاني/نوفمبر، وترافق مع إعلان خطط لزيارات متبادلة عام 2026، قُدمت كإنجاز دبلوماسي للطرفين. غير أن الاتفاق جاء بعد شهور من التصعيد المتبادل: رسوم أمريكية جديدة في شباط/فبراير، وقيود صينية على المعادن النادرة في نيسان/أبريل وتشرين الأول/أكتوبر، وضوابط تصدير أمريكية إضافية خلال الصيف.
اجتماع بوسان أوقف هذه الدائرة مؤقتاً، لكنه لم يعالج أسبابها البنيوية.
خلفية الصراع
يأتي اتفاق بوسان ضمن سلسلة طويلة من الهدن الهشة والتوترات المتكررة بين واشنطن وبكين. بدأت المرحلة الحديثة من هذا الصراع عام 2018 حين فرضت إدارة ترامب رسوماً ضخمة على السلع الصينية متهمةً بكين بـ"ممارسات تجارية غير عادلة" و"نقل التكنولوجيا القسري". وردّت الصين برسوم انتقامية استهدفت قطاعات أمريكية حساسة مثل الزراعة.
منذ ذلك الحين، توسّعت المواجهة إلى مجالات الاستثمار، وضوابط التصدير، والقيود على التعاون التكنولوجي. كل محاولات التهدئة السابقة لم تكن سوى فترات راحة مؤقتة، إذ سرعان ما كانت الخلافات حول التكنولوجيا والسياسات الصناعية والنفوذ العالمي تعود لتفجر جولات جديدة من التصعيد.
العوامل السياسية الداخلية ظلت محركاً أساسياً لهذا النمط؛ ففي واشنطن تُستخدم أدوات التجارة كوسيلة ضغط انتخابية واستعراض للقوة أمام الناخبين. أما في بكين، فالأولوية هي الاستقرار الاقتصادي وتقديم نفسها كقوة "عقلانية" وسط بيئة دولية مضطربة، من دون تقديم تنازلات جوهرية.
بناءً على ذلك، يعكس اتفاق بوسان تقاطع مصالح ضيقاً جداً بين الطرفين، هدفه تجنّب الأضرار الفورية لا أكثر، مع تجنّب الخوض في جذور الخلافات البنيوية.
القضايا الأساسية
1. الضغوط السياسية الداخلية:
ترامب يسعى إلى موازنة موقفه بين الظهور بمظهر المتشدد تجاه الصين وبين حماية الناخبين الأمريكيين من تبعات اقتصادية سلبية، خاصة قبل انتخابات 2026. وفي المقابل، يركّز شي على استقرار الاقتصاد وإظهار قدرة الصين على الصمود من دون تنازلات كبرى.
2. التنافس التكنولوجي:
واشنطن تواصل منع بكين من الوصول إلى التقنيات المتقدمة مثل أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي والبرمجيات الحساسة، في محاولة لإبطاء صعودها الصناعي. أما بكين فتركز على تطوير بدائل محلية واستخدام المعادن النادرة كورقة ضغط مضادة.
3. سيطرة الصين على سلاسل التوريد الحيوية:
المعادن النادرة، الضرورية للإلكترونيات والطاقة المتجددة والدفاع، تبقى أداة نفوذ رئيسية للصين. الاتفاق لم يُلغِ القيود، بل جمّدها مؤقتاً فقط.
4. إعادة تشكيل سلاسل الإمداد العالمية:
بدأت الشركات العالمية نقل جزء من إنتاجها خارج الصين إلى دول مثل فيتنام والهند والمكسيك لتقليل المخاطر الجيوسياسية، لكن هذه الشبكات لا تزال متشابكة مع اقتصادَي العملاقين.
5. غموض آليات التنفيذ:
الاتفاق يفتقر إلى آليات تحقق واضحة أو عقوبات محددة، ما يمنح الطرفين مرونة سياسية لاستغلاله أو التنصل منه عند الحاجة.
السيناريوهات المحتملة
1. السيناريو الأساسي: "الاستقرار المُدار"
عام من الهدوء النسبي يتخلله بعض التوترات. يُنفذ الطرفان جزءاً من التزامات الاتفاق، وتبقى السوق مستقرة نسبياً. الخطاب السياسي قد يتصاعد مع اقتراب الانتخابات الأمريكية، لكن المصالح الاقتصادية تمنع الانفجار.
2. سيناريو التصعيد: تجدد المواجهة التجارية
يفشل الاتفاق، وتتهم واشنطن بكين بعدم الوفاء بالتزاماتها المتعلقة بالفنتانيل أو الواردات الزراعية. ترد الصين بفرض قيود جديدة على المعادن الحرجة. الأسواق تتقلب بشدة، والشركات تُسرّع نقل سلاسل التوريد بعيداً عن الطرفين.
3. سيناريو التعاون: استقرار تدريجي
وهو أقل احتمالاً، لكنه ممكن إذا جرى تمديد الاتفاق إلى ما بعد 2026 مع إنشاء قنوات حوار حول التكنولوجيا والطاقة. قد يؤدي إلى تطبيع محدود للتجارة، لكنه لن يُنهي العداء الاستراتيجي بين الطرفين.
عوامل الخطر
حتى في أفضل الحالات، سيظل الاقتصاد العالمي يعيش تحت وطأة اللايقين المستمر.
فـ تبدل الرسوم والقيود التجارية سيبقي الشركات في حالة حذر دائم، بينما ستحاول الأسواق التكيف مع واقع جديد تُصبح فيه التقلبات هي القاعدة لا الاستثناء.
وفي حال انهيار الاتفاق، فإن التداعيات ستكون واسعة: تضخم في الولايات المتحدة، تراجع في صادرات الصين، واضطراب في الصناعات الحساسة عالميًا، من الدفاع إلى الطاقة الخضراء. كما قد يؤدي ذلك إلى استقطاب اقتصادي عالمي بين محور تقوده واشنطن وآخر تقوده بكين.
حتى في سيناريو التعاون، لن تعود العلاقات إلى مرحلة الاعتماد المتبادل العميق التي سبقت عام 2018؛ فكلا البلدين بات يستثمر بكثافة في الاكتفاء الذاتي الصناعي والتقني.
خلاصة
يمثل اتفاق بوسان مرحلة جديدة في العلاقات الأمريكية – الصينية، لا تقوم على الحل أو المصالحة، بل على إدارة التنافس.
بدلاً من استعادة الاستقرار، يتعلّم الطرفان الآن التعايش في ظل توتر مضبوط، يقدمان فيه تنازلات محدودة مقابل كسب الوقت، بينما يستعد كلٌّ منهما للجولة المقبلة من الصراع.
وفي خضم ذلك، يجد الاقتصاد العالمي نفسه مضطراً للتكيّف مع واقع تتبدل فيه التوازنات بسرعة، حيث لم يعد الاضطراب استثناءً، بل أصبح هو القاعدة.
تعليقات الزوار