الإعلان الرقمي والدعاية الانتخابية بين الانفتاح التقني وغياب التنظيم القانوني
إن الإعلان الرقمي لم يعد رفاهية في ظل تنامي سوق هذا القطاع الحيوي، لذا باتت الكثير، بل كل الأحزاب السياسية أو التحالفات أو المرشحين، تستثمر عالم التواصل الاجتماعي في طرح أفكارها ومتبنياتها داخل هذا العالم.
إذ انتقلت الدعاية الانتخابية من الميادين والملصقات والشوارع إلى شاشات الهاتف أو الحاسوب، وهذا ما يستدعي إعادة النظر في كل مقاييس الإعلانات وآلية الاستخدام، إذ باتت هذه العملية الانتقالية الجديدة تمثل تحدياً جديداً، وخاصة أنها إعلانات لا تحكمها معايير ولا تنظمها ضوابط وطنية صارمة، بل تخضع لمعايير غير محددة وفقاً لرؤية المنصة أو التطبيق، وهي في الغالب لا تتلاءم مع حجم خطورتها ومخاطرها على العملية الانتخابية أو السياسية الوطنية.
إن هذا السلوك الرقمي بات يمثل أساساً كبيراً في تغير سلوك الناخب بسبب توسع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، إذ إن الناخب اليوم يستقي، وبصورة كبيرة، سلوكه في اختيار المرشح من خلال ما يمكن أن يشاهده أو يسمعه عبر هذه المنصات.
إن هذه المنصات اليوم تمثل وسيلة تواصل مباشر بين فئات اجتماعية واسعة، منها الشباب أو الفئات التي تُخصص العملية الدعائية لاستهدافها، وخاصة فئة جيل Z التي تمثل نسبة لا بأس بها من عدد الناخبين الإجمالي، إذ أعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات أن عدد إجمالي الناخبين الجدد بعد عملية التحديث بلغ (1,286,398)، وهو رقم مؤثر في العملية الانتخابية إذا ما قورن بعدد المصوتين الفعليين الذين يدلون بأصواتهم يوم الاقتراع.
ومن خلال هذه الوسائل الرقمية يمكن بناء جمهور انتخابي وفق التوجهات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الدينية، ومن خلال ما تنتجه هذه المنصات من ميزات مخصصة لهذا الغرض يمكن قياس عدد المشاهدات والنقرات والتفاعل بدقة عالية، على عكس الإعلانات التقليدية.
كما أن هناك جانباً آخر لا بد من الالتفات إليه، وهو مقدار الأموال المخصصة لإدارة هذه الحملات داخل البيئة الرقمية، إذ إنها لا ترتبط دومًا بالتكلفة الكبيرة، بل يمكن دفع مبالغ محدودة مقابل تحقيق تفاعل واسع داخل هذه البيئة، بعيداً عن الاستهلاك الكبير للوحات أو المنشورات التي قد لا تُشاهد إلا بتركيز عالٍ أو حضور ميداني مباشر.
ومن خلال ذلك تثار لدينا مشكلة كبيرة، ألا وهي التضليل والإشاعات، إذ يمكن استغلال هذه المنصات في نشر المعلومات أو البيانات الخاطئة والمضللة، فهذه المنصات تمثل بيئة خصبة للاستهداف الممنهج، وهذا ما يثير القلق من إمكانية استغلال البيانات للتأثير على الناخبين أو على عواطفهم بصورة غير أخلاقية وغير قانونية.
ومن خلال فهم الخوارزميات يمكن أن يتعرض المستخدم لمحتوى يتوافق مع ميوله وتوجهاته، مما يزيد الاستقطاب، أو أن يُخصص الإعلان لفئة محددة دون أن يظهر لفئات أخرى، في عملية دقيقة من التلاعب بالرأي العام.
كما ينبغي التنبيه إلى ضرورة أن تكون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات أكثر دقة وحرصاً وفهماً لهذا العالم الجديد، وألا تقتصر مهامها على التعليمات والأنظمة التي وُضعت لمواجهة الإعلانات التقليدية، تاركة الباب مفتوحاً أمام الانتهاكات الرقمية.
فالعملية الدعائية تبدأ وتنتهي وفق المدد التي تحددها المفوضية، مما يعني أن الدعاية يجب أن تتوقف سواء بصورتها التقليدية أو الإلكترونية، إذ لا يمكن أن تستمر عمليات الإعلان الرقمي بعد هذه المدة، لأن ذلك قد يتيح للأحزاب أو التحالفات أو المرشحين استغلال الثغرات القانونية لتحقيق تنافس غير متكافئ، سواء بحثاً عن ناخبين جدد أو تعزيزاً للانتشار في أوقات غير قانونية.
انطلاقاً مما تقدم، فإن تنظيم الإعلان الانتخابي في البيئة الرقمية يمثل ضرورة قانونية وأخلاقية لضمان نزاهة العملية الانتخابية، ويمكن تقديم المقترح الأكاديمي الآتي لتطوير هذا الجانب من خلال إصدار مدونة وطنية للسلوك الانتخابي الرقمي، كذلك تأسيس وحدة متخصصة ضمن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات تُعنى بمتابعة الحملات الرقمية، وتراقب التمويل الإلكتروني، وتعمل على التنسيق مع هيئة الإعلام والاتصالات لرصد الإعلانات الممولة ومصادرها.
إن الإعلان الانتخابي الرقمي يمثل وجهاً جديداً من وجوه التأثير السياسي في عصر الذكاء الاصطناعي والخوارزميات، وهو سلاح ذو حدين؛ يمكن أن يسهم في نشر الوعي السياسي والمشاركة الديمقراطية، لكنه قد يتحول في غياب التنظيم إلى أداة تضليل رقمي وتوجيه غير مشروع، ولذلك، فإن مسؤولية الدولة ومؤسساتها المختصة ـ لا سيما المفوضية العليا المستقلة للانتخابات ـ تكمن في سدّ الفجوة التشريعية وتنظيم هذا المجال بما يضمن العدالة الانتخابية والشفافية الرقمية، ففي زمن أصبحت فيه الأصوات تُستدرج عبر الشاشات لا عبر الساحات، لا بد للقانون أن يمتد بسلطته إلى العالم الرقمي ليحمي الإرادة الحرة للناخب ويصون نزاهة الديمقراطية.
تعليقات الزوار