الطرق الجيوسياسية: كيف تُحرّك أنابيب الطاقة القوة والأرباح
بقلم ليسبث جوفي ليتنز - مختصّة في الأمن السيبراني وحاصلة على درجة الماجستير في الشؤون الدولية من كلية كينغز كوليدج لندن
الأنابيب النفطية أكثر من مجرد بنية تحتية؛ إنها شرايين القوة العالمية. تمتد عبر القارات، وتشكل شبكات معقدة تنقل النفط والغاز اللذين يغذيان الاقتصادات ويُبقيان الصناعات قائمة ويشكلان أساس الحضارة الحديثة. وجودها لا يتعلق بتدفق الطاقة فحسب، بل بالتحكم والقدرة على التأثير في الأسواق وفرض الشروط وتوجيه العلاقات الدولية. فمنذ قرون، كان الوصول إلى موارد الطاقة والسيطرة عليها عاملاً حاسماً في تحديد النفوذ الجيوسياسي والازدهار الاقتصادي للدول.
في عالم اليوم، تُعد أنابيب الطاقة من بين الأصول الأكثر قيمة وتنازعاً في الجغرافيا السياسية. فهي ليست ضرورية لأمن الطاقة المحلي فحسب، بل تُستخدم أيضاً كأدوات استراتيجية تؤثر في التحالفات العالمية ومسارات التجارة وحتى في الاستراتيجيات العسكرية. فامتلاك القدرة على التحكم أو تعطيل طرق إمداد الطاقة يمكن أن يغير ميزان القوى على الساحة الدولية، بينما تتنافس الدول على ضمان وصولها إلى هذه الشرايين الجوفية الحيوية.
الأنابيب كأصول استراتيجية
في عالم مثالي، ستكون الدول مكتفية ذاتياً بالطاقة، لكن الواقع مختلف؛ فالقليل من الدول يمكنها تلبية احتياجاتها بالكامل. هذا الاعتماد يولد شبكة معقدة من سلاسل الإمداد، مما يجعل أمن الطاقة قضية سياسية بقدر ما هو اقتصادية. فمثلاً، تستورد أوروبا ما بين 85 إلى 90% من احتياجاتها النفطية وجزءاً كبيراً من غازها الطبيعي، ما يجعلها عرضة لأي اضطراب في الإمدادات.
وعلى عكس الغاز الطبيعي المسال (LNG) الذي يُنقل بالسفن ويمكن تغيير مساره، توفر خطوط الأنابيب تدفقًا ثابتًا ومنخفض التكلفة للطاقة. وبينما يُعد الغاز المسال الأنسب للنقل عبر المحيطات لمسافات طويلة، تبقى الأنابيب الخيار الأكثر كفاءة واقتصادية للأسواق القريبة، ما يجعلها أصولاً موثوقة وأوراق ضغط سياسية. فمن يسيطر على الأنابيب يمكنه فرض شروطه والتأثير في الأسعار، بل وتسليح الإمدادات لتحقيق أهداف سياسية.
روسيا وأوكرانيا واعتماد أوروبا على الطاقة
قليل من المناطق يوضح أهمية الأنابيب مثل علاقة أوروبا بروسيا. فالقارة تحتوي على أكثر من 200 ألف كيلومتر من الأنابيب، كثير منها يبدأ من حقول الغاز الروسية ويمر عبر أوكرانيا قبل أن يصل إلى الأسواق الأوروبية. هذا الدور جعل من أوكرانيا لاعباً رئيسياً في تجارة الطاقة، إلى جانب كونها مستهلكًا.
قبل صراع عام 2014، كانت أوكرانيا تجني مليارات الدولارات من رسوم عبور الغاز الروسي. لكن مع تصاعد التوترات، سعت موسكو لتجاوزها ببناء خطوط بديلة مثل نورد ستريم 1 و2 عبر بحر البلطيق، وترك ستريم نحو الجنوب، مما أضعف اقتصاد كييف وموقفها التفاوضي.
جاء الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022 ليُصعّد الصراع الطاقوي، مع العقوبات وقطع الإمدادات وسعي أوروبا المتسارع لفك ارتباطها بالغاز الروسي. ومع نهاية 2024، توقفت صادرات الغاز الروسي عبر أوكرانيا كلياً بعدما رفضت كييف تجديد اتفاق العبور، معلنة أنها لن تسمح لروسيا بـ"كسب المليارات على دمائنا".
ورغم المخاوف من نقص واسع وارتفاع الأسعار، تمكنت أوروبا من التكيف بسرعة من خلال زيادة واردات الغاز المسال من الولايات المتحدة وقطر وأستراليا، إلى جانب تعزيز الطاقة المتجددة، ما غيّر المشهد الطاقوي الأوروبي جذرياً.
الهيمنة الروسية على سوق الغاز الأوروبي تراجعت وربما إلى الأبد، لكن أمن الطاقة في القارة لا يزال هشًا، إذ تبقى الأنابيب وسلاسل الإمداد محور التوازن الجيوسياسي المقبل.
الصراع على الطاقة في البحر الأسود
يتجاوز الأمر خطوط الأنابيب إلى السيطرة على موارد البحر الأسود، حيث تحتوي شرق أوكرانيا وشبه جزيرة القرم على احتياطات كبيرة من الغاز الصخري والنفط البحري. لم تكن السيطرة الروسية على القرم عام 2014 خطوة سياسية فقط، بل استراتيجية للسيطرة على حقول الطاقة البحرية الغنية وتعزيز النفوذ الإقليمي في قطاع الطاقة.
التحكم في ممرات الطاقة يعني امتلاك النفوذ السياسي؛ إذ استخدمت موسكو الغاز مراراً كأداة ضغط، مقطعة الإمدادات عن دول حاولت تحديها، ما جعل أمن الطاقة أولوية أوروبية قصوى.
بحث أوروبا عن البدائل
اعتماد أوروبا الطويل على الطاقة الروسية جعل البحث عن بدائل ضرورة ملحة. فالواردات من الولايات المتحدة وقطر وأستراليا توفر احتياطاٌ، لكنها مكلفة وتتطلب بنية تحتية خاصة. أما خطوط الغاز القادمة من شمال إفريقيا — الجزائر وليبيا — فهي معرضة للاضطرابات السياسية. في حين تمثل الطاقة المتجددة والنووية حلولًا بعيدة المدى تحتاج إلى استثمارات هائلة وزمن طويل.
ورغم كل الجهود، لا تزال الأنابيب تمثل العمود الفقري لإمدادات أوروبا، وأداة نفوذ سياسي رئيسية.
مستقبل الأنابيب في عالم متغير
مع تسارع التحول نحو الطاقة المتجددة، قد يتغير دور الأنابيب، لكنها ستظل لسنوات في قلب الصراع على النفوذ العالمي. من الجدل حول نورد ستريم 2 إلى التنافس الروسي الأوكراني وظهور مزودين جدد، تبقى الأنابيب مؤثرة في الاقتصاد والتحالفات والصراعات.
طالما ظلت الطاقة شريان الحياة للحضارة الحديثة، ستبقى الأنابيب من الأصول الأكثر قيمة ونزاعاٌ في السياسة الدولية، إذ يضمن تشابكها مع سياسات التجارة والطاقة أن تبقى عنصرًا حاسمًا في توازن القوى الإقليمي والدولي لسنوات قادمة.
تعليقات الزوار